«"عمر كحالة" قضى أكثر من نصف قرن من الزمن في جمع خامات التاريخ العربي من أفضل مصادرها، ليحولها إلى معارف منسقة ومنظمة ومدروسة زودت المكتبة العربية بمجموعة من المؤلفات الجادة المتسمة بالدقة والأمانة، وتمكن من إنتاج عمل علمي منظم، جاعلاً من البحث عن التاريخ وصياغة حقائقه ومعطياته، هدف العمر كله». هكذا يصف لنا الكاتب "أحمد شكري" الكاتب والباحث "عمر كحالة".
موقع "eDamascus" وللوقوف عند حياة الكاتب والباحث "عمر كحالة" التقى الباحث في التراث العربي السوري "محمد مروان" ليحدثنا عنه، فيقول: «يغدو الأمر مثيراً للدهشة ومدعاة للإعجاب في آن معاً، حين يتصدى مفكر بمفرده للقيام بعمل مؤسسة كاملة، ويأخذ على عاتقه مهمة التحقيق والبحث في المصادر، والتصحيح والتأليف ليخرج بعدها بمؤلفات راقية في مجلدات بالعشرات، تسد فراغاً كبيراً في مكتبة الفكر والثقافة، وتلبي حاجات الباحثين المتعطشين إلى المعلومة الصحيحة والخبر الدقيق، وهذا ما فعله المؤرخ المتميز الراحل "عمر رضا كحالة" خلال مسيرة دائبة، تواصلت لأكثر من نصف قرن.
لقد رحل "عمر رضا كحالة" في تشرين الثاني عام 1987، وكان في الثمانين من عمره، وبقي اسمه متألقاً في سجل الخالدين، مع "ابن عساكر والبستاني ووجدي والزركلي"، وكوكبة الموسوعيين المجيدين الذين حموا تراثنا الفكري وأناروا للأجيال للسير في طريق الحضارة الإنسانية
خمسون سنة بأكملها والرجل ساهر متعبد في محراب الفكر، بذهن متفتح ورؤية صافية، ومنكب على المخطوطات الفريدة يعطي ذوب عينيه للحروف والكلمات، ويميز وينتقي، ثم يصب ذلك كله في قالب جديد من العبارة المحكمة، والدباجة المشرقة، والسبك الأنيق، لتكون المحصلة سبعين مجلداً فريداً، وثق فيها لإعلام المؤلفين، "قبائل العرب، أوائل النساء، الحضارة العربية الإسلامية، علوم اللغة العربية، الدين، التربية، التعليم، الفنون الجميلة، الدراسات الاجتماعية وعلوم الفلسفة"».
يتابع: «أخرج "كحالة" هذه الأعمال المتميزة بروح تواضع عالية، وإيمان صادق، لم تئن عزيمته مشقة البحث وعناء التنقيب، ولا أوهن نفسه طول السهر وجهد العمل.
ولد عمر كحالة بدمشق عام 1906 في بيت عريق اشتهر بعض أفراده في مجالات العلم والتجارة، وقد حالت الأوضاع السيئة التي عاشها الوطن العربي أبان فترة الحكم العثماني، دون تمكنه من الحصول على فرصة التعليم الحديث، وإن كان قد استطاع تجاوز المرحلة الابتدائية، وسنح له العمل عام 1934 بوظيفة ناسخ مؤقت بدار الكتب الظاهرية، وأتاح له تواجده وسط المخطوطات والمؤلفات أن ينهل من معينها بشغف وتفهم، وبدأ يستوعب بذكاء تلك الثروة القيمة من التراث العلمي الخالد، ليباشر تأليف الكتب وإصدارها في وقت مبكر من حياته، وكانت البداية في ذلك العام، مؤلفه المعنون: "أفريقية الغربية البريطانية" والذي شرح فيه ظروف تلك المنطقة من صفحات مذكراته التي دونها خلال عمله مع أسرته لبعض الوقت فيها، وتوالت بعد ذلك مؤلفاته الإسلامية في عدة أجزاء، وتولى في العام التالي أمانة المكتبة الظاهرية، وباشر في تلك الفترة بإخراج مؤلفه الشهير "معجم المؤلفين" الذي صدر في أربعة عشر جزءاً، ذكر في مقدمته: أنه معجم لمصنفي الكتب العربية من عرب وعجم، منذ بدء تدوين الكتب حتى العصر الحاضر، والحق بهم كل من كان شاعراً أو روائياً، مع تثبيت تواريخ ولادتهم ووفاتهم، ونسب كل منهم وكنيتهم واختصاصه ولمحة عن عصره، وقد أصبح ذلك المؤلف نادراً ومن الصعب الحصول عليه اليوم».
ويضيف: « مع بداية العام 1940 نشر "عمر كحالة" مؤلفه المتميز "أعلام النساء في عالمي العرب والإسلام" في ثلاثة أجزاء، وأتبعه عام 1945 بكتاب "جغرافية شبه جزيرة العرب" وفي ذلك العام أصبح مديراً لدار الكتب الظاهرية، فشغله العمل فيها عن التحقيق والتأليف لعدة سنوات، ولكنه ما لبث أن واصل مسيرته الإبداعية في السبعينيات حين أصدر عام 1971 كتاب "اللغة العربية وعلومها" وشهد العام التالي 1972 أغزر أعماله الفكرية حيث نشر كتبه "الأدب العربي في الجاهلية والإسلام، الألفاظ العربية والموضوعة، التاريخ والجغرافية في العصور الإسلامية، العلوم البحتة في العصور الإسلامية، الفلسفة الإسلامية وملحقاتها، الفنون الجميلة في العصور الإسلامية".
وناف عدد إصداراته في الأعوام التالية ما بين 1973 و1980 على أربعة عشر مؤلفاً في الدراسات الاجتماعية وعلوم الدين الإسلامي والتربية والتعليم، ولكن أبرزها وأكثرها تميزاً كان معجم "قبائل العرب القديمة والحديثة"، فإذا أَضفنا إلى هذا كله نتاجه الثري من الأبحاث الاجتماعية الكثيرة، وفهارس المجمع العلمي العربي بدمشق في عدة أجزاء، أدركنا ما حفلت به مسيرة هذا الباحث الموسوعي من إبداع، وما قدمه للتراث العربي من خدمات جليلة، وكل ذلك في تواضع جم، ونفس راضية، مكتفيا بعبارته: "لو أوقفت عشرات أضعاف العمر الذي قُسم لي في هذه الدنيا على الدراسات والبحوث، ما تسنى لي أن أقدم أكثر من نقطة في بحر المعارف العربية والإسلامية التي خلفها لنا الأسلاف، لنحفظها وتدريسها وننقلها للأجيال التالية».
وعن نهاية حياة الباحث والكاتب "عمر كحالة" يقول "محمد مروان": «لقد رحل "عمر رضا كحالة" في تشرين الثاني عام 1987، وكان في الثمانين من عمره، وبقي اسمه متألقاً في سجل الخالدين، مع "ابن عساكر والبستاني ووجدي والزركلي"، وكوكبة الموسوعيين المجيدين الذين حموا تراثنا الفكري وأناروا للأجيال للسير في طريق الحضارة الإنسانية».
من الجدير بالذكر أنه في أوائل عام 1983 كرمت الدولة الباحث المحقق "عمر رضا كحالة" في حفل مشهود، ورصع صدره بوسام الاستحقاق من الدرجة الأولى الذي منح له عربون تقدير لرائد قدير من رواد البحث الموسوعي، وتحية وفاء لمؤرخ نذر عمره للتوثيق والتحقيق وأثرى المكتبة العربية بأكثر من سبعين مجلداً، هدت الباحثين إلى كنوز التراث العلمي والعربي، ووضعت بين أيديهم مراجع موثوقة في جل المعارف الإنسانية.