هو أول قائد للجيش السوري، وزعيم الشهداء الذين دافعوا عن شرف سورية بأرواحهم، لذا كان رمزاً للشهادة والشهداء.
ليس غريباً أن يعرف المتتبع لتاريخ أول "وزير دفاع" في سورية أن هذا القائد المحنك كان يعلم علماً يقينياً أنه في عداد الشهداء عندما قرر خوض "معركة ميسلون"، لكن المفاجئ أن نكتشف أن القرار كان انتصاراً سياسياً وتاريخياً له ولسورية.
كانت "ميسلون" معركة خاسرة عسكرياً، ورابحة تاريخياً
الباحث "برهان بخاري" تحدث عن قرار خوض المعركة بالقول: «كانت "ميسلون" معركة خاسرة عسكرياً، ورابحة تاريخياً»، خاصة إن علمنا أن الفرنسيين كانوا سيدخلون العاصمة السورية دون أي مقاومة عسكرية تذكر لولا "معركة ميسلون".
أما على المستوى العسكري فيظهر جلياً أن الحنكة العسكرية التي يملكها "يوسف العظمة"، والخبرة الطويلة التي اكتسبها من خلال تواجده في عدد من الجبهات العسكرية في أوروبا وآسيا؛ ظهرت واضحة من خلال قيادته لمعركة الشرف السوري، وكادت تحول تلك الذكرى المؤلمة إلى انتصار عسكري مدوي، حيث يقول الباحث التاريخي الدكتور "نذير العظمة": «لقد تعاون "يوسف العظمة" مع الضباط الذين لم يسرحوا من الجيش على وضع استراتيجية كلفت الجيش الفرنسي الكثير من الخسائر، والأكيد أن خطة "يوسف العظمة" كانت أقوى من خطة المهاجمين الفرنسين لكن المدافعين والمتطوعين لم يكونوا مؤهلين للمقاومة لذلك لم يستطيعوا مقاومة الجيش الفرنسي بعدده وعتاده المتقدم».
ولقد تحدث عنه الجنرال غوابيه بالقول: «"العظمة" خصم لايستهان به عرف كيف يختار مكان دفاعه وحصّنه أحسن تحصين».
نشأة "يوسف العظمة" وسيرة حياته كانتا تنبئان بنهاية مشرفة وغير اعتيادية لشاب دمشقي نشيط وشجاع، تنقل وزار العديد من الجبهات العسكرية وعمل تحت إمرة عدد من الضباط العثمانيين ورافق بعض الضباط الأوروبيين وهو مايزال في ريعان شبابه، لذا تحدث عنه الملك فيصل بالقول: «سيكون ليوسف العظمة شأن كبير بين الرجال وسيمثل على مسرح السياسة دوراً خطيراً»، أما الجنرال غورو فتحدث عنه بالقول: «هذا الضابط الشاب كان عدوا شرساً لنا».
ولد الشهيد "يوسف العظمة" في أحد أعرق الأحياء؛ حي "الشاغور –الصمادية" بتاريخ "9/4/1884"، وهو سليل عائلة دمشقية محافظة توارثت التقاليد العسكرية منذ القرن السابع عشر، والده "إبراهيم بن عبد الرحمن" كان موظفاً في "مالية دمشق" توفي وكان ليوسف من العمر ست سنوات، فقام برعايته أخوه "عبد العزيز" الذي أصبح لاحقاً والياً على اليمن وطرابلس الغرب.
تابع "العظمة" تعليمه الإبتدائي في "مدرسة الياغوشية" ثم التحق بالمدرسة الرشدية العسكرية في "جامع يلبغا" بحي البحصة وتابع دراسته العسكرية بالمدرسة الإعدادية العسكرية بدمشق وكان مقرها جامع دنكز ثم انتقل في عام /1900/ لمدرسة "قله لي" الإعدادية العسكرية بالأستانة ليتخرج بعد سنة ضابطاً في "سلاح الفرسان".
التحق "العظمة" بالمدرسة "الحربية العالية" بالأستانة وتخرج / 1903/ برتبة "ملازم ثاني"، في عام /1905/ أصبح "ملازماً أولاً" بعدها انتقل لمدرسة "أركان الحرب" حيث أتم فيها العلوم والفنون الحربية وحصل على رتبة "نقيب أركان حرب" عام /1907/.
عين "العظمة" معاوناً للقائد الألماني "ديتغرت" ثم أرسل للواء الفرسان المرابط في "ثكنة رامي" بالأستانة، نقل بعدها لفوج القناصة "تشانجي" المشاة في "بيروت" حيث عهد إليه تعليم وتدريب الجنود اللبنانيين، كان "العظمة" يجيد اللغات "الألمانية والتركية والفرنسية" كتابة وقراءة، إضافة للغة الأم "العربية".
عين مدرباً مساعداً لمادة التعبئة في مدرسة أركان الحرب في الأستانة /1908/، أرسل "العظمة" عام /1909/ في بعثة عسكرية إلى ألمانيا ليلتحق بمدرسة أركان الحرب لمدة سنتين ويعود بعدها للأستانة ليعين ملحقاً عسكرياً في المفوضية العثمانية العليا في القاهرة.
شارك "العظمة" في حرب البلقان عام /1912/، وفي عام /1917/ عيّن كمساعد "لأنور باشا" المفتش العام للجيش العثماني، وعمل في أواخر الحرب العالمية الأولى كرئيس لأركان حرب الفيلق التركي الأول الذي دافع عن "الدردنيل" حتى نهاية الحرب، وبعد الهدنة بقي "العظمة" في تركيا إلى أن سمع بتشكيل الحكومة العربية في دمشق، فاستقال من منصبه في الجيش التركي والتحق بالجيش العربي.
بعد التحاقه بالجيش العربي الفيصلي، عيّن "العظمة" كضابط ارتباط في بيروت، حيث استخدم الشفرة لأول مرّة في مكتب الحكومة العربية هناك، و بعد إعلان المَلَكيةّ نُقل من بيروت، وعيّن رئيساً لأركان حرب القوّات العربية - بعد ترقيته إلى رتبة (عميد)-، ثمّ أسندت إليه وزارة الحربية الدفاعية عند تشكيل وزارة "هاشم الأتاسي" في 3/5/1920، وهنا عكف العميد "العظمة" على تنظيمها و تقوية الجيش العربي اليافع، بل وقام بإجراء عرض عسكري في دمشق لتقوية الروح المعنوية في الجيش ولدى السكان، و لكن الأقدار لم تمهله لإكمال تنظيم وتقوية هذا الجيش.
شهر "تموز" من عام /1920/ كان لاهباً في مسيرة "يوسف العظمة" وفي تاريخ سورية الحديث لذا سنذكر أبرز الأحداث التي شهدها هذا الشهر حسب ما ذكره الدكتور "محمد شريف الصواف" عندما تحدث عن سيرة "يوسف العظمة" في كتابه "معجم الأسر الدمشقية":
«بدأت الحكومة الفرنسية تسعى مع بداية شهر "تموز" لتنفيذ الانتداب الذي أقرّه مؤتمر "فيرساي" -حسب تقسيمات اتفاقيّة "سايكس- بيكو"- بشكل عملية احتلال عسكرية كاملة، عقدت هدنة مع تركيا، وأرسلت قوّات عديدة للشرق، وفوّضت الجنرال "غورو" مفوّضها السامي بإرسال إنذار نهائي إلى الملك "فيصل"، وكان يتضمّن مايلي؛ "وضع السكك الحديدية تحت تصرّف الفرنسيين بشكل مطلق، والتعامل بالعملة التي فرضتها فرنسا، وحلّ الجيش العربي وإلغاء التجنيد الإجباري، وأخيراً قبول الانتداب الفرنسي".
الإنذار وصل رسمياً إلى الملك "فيصل" بتاريخ "14/7/1920"، ورغم الرفض الشعبي والاستياء الشديد من الإنذار – حتى ضمن (المؤتمر السوري أو ما عرف فيما بعد بمجلس الشعب) - إلا أن الملك "فيصل" وحكومته قرّرا قبول الإنذار لسببين، أولاً نزولاً عند نصيحة اللورد الإنجليزي "أللنبي" عند استشارته، إذ أشار بسرعة القبول لتفويت الغاية التي يسعى إليها "غورو" بدخول دمشق دخول الفاتحين، وثانياً ضعف الذخائر و الأسلحة لدى الجيش العربي.
تمّ قبول الإنذار، و اضطر الوزير "العظمة" لمجاراة رفاقه في الحكومة والرضوخ لهذا القبول، رغم رأيه القائل دوماً بأن "الجيش وجد ليقاتل حتى لو كانت نتيجة المعركة ضدّه"..!
قام المؤتمر السوري بتاريخ "19/7/1920" بعقد جلسة غير عادية وسحب الثقة علنياً من الحكومة، إلا أن الحكومة في اليوم التالي أعلنت في بيان تلاه وزير الحربية "العظمة" تعليق جلسات "المؤتمر" لمدّة شهرين، وقام الملك "فيصل" بكتابة مذكرة إلى (غورو) لإعلامه بتنفيذ بنود إنذاره، وسلّمها إلى الكولونيل "كوس" المعتمد الفرنسي في دمشق لتسليمها لغورو قبل انتهاء المهلة المحدد بتاريخ "21/7/1920"، إلا أن "كوس" لم يرسل المذكرة إلى "غورو" واكتفى بإرسال برقية بمضمونها، إلا أن البرقية تأخرت بسبب تعطّل خطوط البرق، فتذرّع "غورو" بتأخّرها و أصدر الأمر لجيوشه بالتحرّك نحو دمشق.
قام الملك "فيصل" بمحاولة أخيرة للتفاهم مع "غورو"، وأرسل السيد "ساطع الحصري" وزير المعارف موفداً للتفاهم معه، وأثناء مرور "الحصري" على ميسلون في طريقه إلى بيروت طلب منه "العظمة" الذي كان يحاول لمّ فلول الجيش أن يحصل على أطول هدنة ممكنة ليتمكن من جمع أكثر ما يمكن من العتاد والسلاح.
استطاع "الحصري" الحصول على هدنة لمدّة /24/ ساعة بعد موافقته باسم حكومة دمشق على شروط إضافية، إلا أن المفاوضات الجديدة مع "غورو" لم تثمر إلا عن شروط جديدة أقسى من سابقتها دلّت بوضوح بأنه لن يتراجع عن احتلال دمشق مهما يكن، وهكذا وجد الملك والحكومة أنه لم يعد هناك مجال لقبول هذه الشروط الجديدة، وتم رفضها، وبدأت القوى الوطنية بحثّ الناس على الخروج إلى ميسلون لصد العدو، فتراكض جمع غفير إلى هناك مسلحين بالبنادق والمسدسات القديمة والسيوف وحتى بالمقاليع لينضموا لفلول الجيش التي حاول "العظمة" جمعها قبل إتمام أمر تسريحها الذي صدر سابقاً استجابة للإنذار، وانطلق بصحبة مرافقه إلى القصر الملكي ليستأذن الملك فيصل بالذهاب إلى الجبهة».
وهنا يذكر الأستاذ "نصر الدين بحرة" ما أورده الطبيب الخاص للملك "فيصل" "أحمد قدري" في مذكراته والذي شهد نهاية مناقشة جرت بين الملك "فيصل" والجنرال "يوسف العظمة" طلب فيها "العظمة" خوض المعركة بالقول: «هل يأذن لي جلالة الملك بأن أموت؟!».
يوم استشهاد "يوسف العظمة" كان أليماً، قاسياً، ولكنه كان مشرفاً، وقد كتب الدكتور "محمد شريف الصواف" عن تفاصيل ذلك اليوم بالقول: «لقد خرج الشهيد "العظمة" ليتولّى قيادة الجيش في ميسلون في يوم "23/7/1920" واجتمع بالضباط الذين لم يتموا تنفيذ أمر تسريحهم وأبلغهم أن الحرب لابد قائمة.
وأوعز إلى جميع القوى لتكون على أهبة الاستعداد لصد العدو المهاجم، وألقى على قادته شفهياً خطته الدفاعية-الهجومية، والتي تتلخص في تنظيم خط دفاعي في وسط الجبهة على جانبي الطريق (القلب)، مع فرز وحدات خفيفة إلى يمين ويسار الجبهة لحماية الجناحين (الجناح الأيمن والجناح الأيسر)، إضافة إلى وضع ألغام محليّة الصنع على الطرق المؤدية إلى المنطقة.
وتمركز "العظمة" في مركز قيادة الجبهة في أعلى مرتفع يشرف على الجبهة بكاملها، وبعد أن أدى صلاة الفجر ليوم /24/ بدأ بالاستعداد لخوض المعركة التي استمرت من الفجر حتى الظهر.
كانت حالة المعركة حسنة حتى الساعة التاسعة عندما بدأت المدفعية الفرنسية بالتغلب على المدفعية العربية، وبدأت الدبابات الفرنسية بالتقدم باتجاه الخط الأمامي العربي في دفاع القلب، وعوّل "العظمة" على الألغام المدفونة لتوقف تقدّم هذه الدبابات، إلا أن الألغام لم تقم بعملها ولم تؤثر فأسرع إليها يبحث، فإذا بأسلاكها قد قُطعت!.
وتمكن الفرنسيون من تحقيق النصر نظراً لكثرة عددهم وقوة تسليحهم وعلى الرغم من استبسال المجاهدين في الدفاع عن الكرامة العربية، وخلال المعركة وبعد نفاذ الذخائر نزل العظمة من مكمنه على جانب الطريق حيث يوجد مدفع عربي سريع الطلقات وأمر "الرقيب سدين المدفع" بإطلاق النار على الدبابات المتقدمة، وما كان من أحد رماتها إلا أن أطلق ناره باتجاه القائد "العظمة" فخرّ شهيداً، وأسلم روحه هو ورقيب المدفع الذي كان بجواره في الساعة العاشرة والنصف من صباح "24/7/ 1920"، استشهد العظمة في معركة الكرامة التي كانت نتيجتها متوقعة؛ خاضها دفاعا عن شرفه العسكري وشرف بلاده.
وانتهت المعركة بعد استشهاد 400 جندي عربي، مقابل 42 قتيلاً من الفرنسيين و154 جريحاً، علماً أن عدد القوات الفرنسية كان /9/ آلاف جندي تحت إمرة الجنرال "غوابيه"، مقابل /8/ آلاف مقاتل ومسلح نصفهم على الأقل من المتطوعين والمسلحين بأسلحة قديمة دون دبابات أو طائرات أو تجهيزات ثقيلة، بقيادة الجنرال "يوسف العظمة"، وبذلك كان أول وزير للحربية يستشهد على رأس قواته في الوطن العربي».
دفن الشهيد "يوسف العظمة" مكان سقوطه، وأقيم له ضريح كتب عليه "يوسف العظمة وزير الحربية في 7 ذي القعدة سنة 1338هجرية"، وقد تحدث الدكتور "نذير العظمة" عن عائلة الشهيد "يوسف العظمة" بالقول: «تزوج "يوسف العظمة" من شابة تركية تدعى "منيرة"، وله منها ابنة اسمها "ليلى"؛ والتي غادرت إلى استانبول لتعيش مع أمها بعد استشهاد والدها، وقد تابعت "ليلى" تعليمها في مدرسة فرنسية وتزوجت من شاب تركي عام /1939/، وأنجبت منه ابنها الوحيد "جلال" قبل وفاتها عام /1949/ وهي في الثلاثين من عمرها».