مازج الصوت "mixer" عشقه، وغرفة المراقبة (Control)، هي بيته الثاني الذي عاش فيه لما يقارب الأربعين عاماً، في هذه الغرفة الصغيرة يحقق "فؤاد العضيمي" ذاته ويرضي شغفه في هندسة الصوت في "صالة الحمراء" ويغني العروض المسرحية بالمؤثرات الموسيقية التي غالباً ما تكون موضوع نقاش بينه وبين المخرجين.
لم يدرس الهندسة بل كان خريج معهد الإلكترون لعام 1974 رغم ذلك كان مهندس الصوت الوحيد تقريباً في مديرية المسارح والموسيقا وهو في نظر الكثيرين "مهندس الصوت الأفضل"، "eSyria" التقى "فؤاد العضيمي" وأجرى معه الحوار التالي:
** أنا لست مهندساً بل خريج معهد الإلكترون عام 1974، بعد تخرجي عملت في مديرية المسارح والموسيقا وتحديداً في مسرح الحمراء، كان وزير الثقافة آنذاك "فوزي كيالي" أما مدير المسارح فكان الفنان "أسعد فضة" الذي أكن له كل الاحترام والمحبة، وكان المهندس "زهير الخيمي" الأكاديمي الوحيد في هندسة الصوت، وكونه صديق العائلة فقد تم عن طريقه تعييني في مسرح الحمراء.
عملت في البداية ولفترة قصيرة في الإضاءة وشاركت في بعض العروض المسرحية لكني لم أجد ذاتي إلا خلف جهاز مازج الصوت "mixer"، عندها أكون أنا فؤاد الذي يتابع حوار الممثل ويضيف المؤثرات عليه ويستمع للموسيقا ليرى إن كانت طبقة الصوت عالية أم منخفضة، فهندسة الصوت هي ذاتي التي أسعى دوماً لتطويرها وإغنائها بكل جديد.
** عندما أتيت إلى مسرح الحمراء في بداية السبعينيات كنت أعمل على مسجلات "البكر" أو "reel" وهذه على ما يبدو على وشك الانقراض، رغم علمي بأنها ما زالت مستخدمة في بناء الإذاعة المصرية وإذاعة الـ"bbc " وبعض المسارح الفرنسية.
لقد امتاز "جهاز البكر" عن الأجهزة الأخرى بالحساسية العالية والوضوح مثلاً عندما أسجل على "الكاسيت" حرف السين يكون طوله كتسجيل 1/2 سم أما على "البكر" فطوله يصل إلى 5 سم، فضلاً عن الدقة العالية فإن عمر البكر يصل إلى 15 سنة أو أكثر لأنه عبارة عن شريط بلاستيكي وتتوضع عليه ذرات حديدية عندما نسجل الصوت تتغير الذرات وتتوضع بطريقة التردد الصوتي الصادر حتى نسمعها بشكل نهائي، كما كان هناك ثلاث سرعات للتسجيل (15، 7,5، 3,75) م/ د، مثلاً شريط البكر الذي سرعته 15م/د نسمعه خلال ربع ساعة أما الشريط الذي سرعته 7,5م/ د فنسمعه خلال نصف ساعة تقريباً والشريط ذات السرعة 3,75 نسمعه خلال ساعتين.
أيضاً كان التسجيل على الأسطوانات بطريقة الحفر اليدوي حيث كانت الأسطوانة عبارة عن دوائر حلزونية محفورة بإبرة تتحسس بالتيار الكهربائي الذي يتحول إلى صوت مسموع ويحفر على الأسطوانة ولكن بخطوط عريضة، وكان التسجيل نوعان "sterio" و"mono" الاستريو في فترة السبعينيات لم يكن متوفرا بكثرة وظهوره الفعلي كان في الثمانينيات.
التسجيل على البكر يوصف بالمدخل الكامل "full track" أي المسح على عرض الشريط الكامل أي لا يوجد خطوط، ثم ظهرت الـ"multi track" أي (2، 4، 8، 16، 32) مدخلا كاملا، بعدها بدأت الاستديوهات بالانتشار ولم يكن في سورية آنذاك سوى استديوهات إذاعة دمشق واستديو واحد في إذاعة حلب، كنت أسجل هنا في مسرح الحمراء حيث وُجد استديو مصغر وكان "mixer" الذي عملنا عليه " channels6" أي 6 خطوط و"microphones 6" وآلة تسجيل، بهذه الآلات البسيطة سجلنا لأهم عازف كمان في العالم لمدة سبع سنوات متتالية "نجمي السكري" وكذلك سجلنا لـ "عابد عازارية" كما سجلنا للعديد من الفرق العربية والأجنبية.
** العمل على الميكروفون لم يختلف بل اختلفت التقنية، لأن الأساس واحد؛ أي "ميكروفون" و"كابل" يوصل إلى "مازج الصوت" ثم إلى "مضخم الصوت" ثم إلى السمع من خلال المكبرات، وكان الميكروفون آنذاك يتألف من خطين "Cheld" و"hot" والآن أضيف خط ثالث "cold" أماالميكروفونات فكانت "الميكروفون الديناميكي" أو "الكربونيط الذي كان يستخدم للهاتف الأرضي فقط ثم ما لبث أن ظهرت أنواع جديدة مثل "المكثف" و"اللاسلكي".
لم يكن لدينا مينوتورات بل كنا نستخدم "speaker" عادي ونصنع له علبة حتى نسمع ما يحصل على المسرح الآن أصبح لدينا "Head phone" وتقنيات عالية، بعد ذلك طورنا بعض التجهيزات الموجودة لدينا بإمكانيات متواضعة فصنعنا "enter come" للتخاطب مع خشبة المسرح والكواليس من غرفة المراقبة "control"، وكما ذكرت التسجيلات الصوتية مرت بمراحل عدة بدءاً من البكر والداتا إلى الـ C.D وبعده (MD) والآن بات بالإمكان التسجيل والتخزين والبث المباشر عبر الحاسوب هذا الجهاز الذي يتميز بسعته العالية ودقته وقدرته على فتح آفاق جديدة أمامنا وعدداً لا متناهي من المداخل والمسارات في حال استخدامه كمازج للصوت.
*من هم المخرجين الذين تعاملت معهم وما هي أحب العروض المسرحية التي كنت مسؤول الصوت فيها؟
** قبل أن أذكر العروض المسرحية التي كنت فيها مسؤولاً عن الصوت أود أن أؤكد أني وما زلت أحرص على عدم وجود أي خطأ تقني مثلاً عدم تنزيل المؤثرات الصوتية في الجملة المتفق عليها لأن هذا يربك الممثل، لقد واكبت خلال عملي في هندسة الصوت في مسرح الحمراء ثلاثة أجيال من المخرجين "الرواد" و"الشباب" و"المخرجين الجدد".
أما المخرجين الرواد الذين عملت معهم في السبعينيات (1974-1984) فكان أولهم الأساتذة "أسعد فضة" و"علي عقلة عرسان" و"محمد الطيب" وهؤلاء كانوا خريجي "القاهرة" وكذلك "يوسف حرب" و"حسين إدلبي" خريجي "النمسا" و"حسن عويتي" و"نائلة الأطرش"و "وليد قوتلي" خريجي "بلغاريا" وعملت مع المخرج "محمود خضور"و"منويل جيجي".
أيضا عملت مع "شريف شاكر" و"فواز الساجر" والمخرج "طلال الحجلي" و"عبد المسيح نعمة" و"فيصل الراشد" و"توفيق المؤذن" الذي يعمل الآن في إذاعة "موسكو" على ما أذكر .
ومن المخرجين الشباب الذين عملت معهم "جهاد سعد" و"فائق عرقسوسي" و"سهيل شلهوب" و"غسان جباعي" و"أيمن زيدان" أيضاً عملت مع "غسان مسعود" و"ماهر صليبي" و"طلال نصر الدين" و"هشام كفارنة" و"ناجي عبد الأمير" والمخرجة الشابة "رغدا شعراني" هذا بالإضافة إلى مشاركتي في العديد من مشاريع التخرج في المعهد العالي للفنون المسرحية وعملي مع بعض المخرجين الوافدين الذين عملت معهم من عراقيين ومصريين، ولن أنسى عملي مع جواد الأسدي في أربعة عروض وشاركت معه في "مهرجان قرطاج المسرحي" بالعرض المسرحي الفلسطيني "العائلة توت" وحصلنا آنذاك على جائزة أحسن تقنيات.
أما بالنسبة لأحب العروض التي عملت فيها فهي كثيرة منها "حكاية بلا نهاية" و"الأشجار تموت واقفة" و"سيزيف الأندلسي" و"صمت الكلام" و"كاليغولا" و"سوبر ماركت".
** طبعاً أشتاق لتلك المرحلة من حياتي ولكن في المقابل حبي لمهنتي يحتم علي مواكبة كل التطورات التي تطرأ عليها وعلى وسائلها، لأني حين لا أطور أدواتي أفقد إحساسي بأذني ويدي وهذا يعني عزلي تماماً عن عالم الصوت الذي أحب. إن جلّ شوقي لتلك الأيام ينبع من إحساسي بالآلة أي حين كنت أسجل على البكر كنت في كثير من الأحيان ألغي من التسجيل وأقص بيدي هاتين وأقوم بالمونتاج بشكل سريع أثناء تقديم العرض، كنت أقص بالمقص وأحياناً بالموس كيلا يتضرر الشريط.
هذا الإحساس بالآلة فقدته اليوم، لأننا بتنا طوع أمر هذه الآلات بعد أن كنا أسيادها إن صح التعبير.لست ضد التطور بل أنا ممن يواكبون كل جديد من خلال إطلاعي الدائم على آخر المنتجات التي تطلقها كبرى الشركات التي تُعنى بالصوتيات أنا دائماً أسعى وراء المعلومة فالإنسان الذي يدعي الكمال في العلم والمعرفة في نظري إنسان جاهل لأننا نحن البشر بحاجة دائمة للتعلم حتى الممات.
** نعم كما قلت هي ذكريات كثيرة، لكن يستحضرني أسلوب الحياة والتعامل اللطيف الذي كان سائداً في تلك الفترة لقد كان فريق العمل كله يتناول الإفطار هنا في مسرح الحمراء وكثير منّا من كان ينام على مقاعد هذه الصالة، وأذكر تماماً أن الرعيل الأول من المخرجين كانوا يعاملوننا كأبناء لهم مثل "عدنان بركات" و"يوسف حنا" و"يعقوب أبو غزالة" ويستحضرني الآن حادثة كانت أليمة جدا لولا الأصدقاء و زملاء العمل ففي إحدى المرات سقطت من مكان مرتفع في الصالة وعلى إثر هذه الحادثة بقيت في المنزل لمدة شهرين خلال هذين الشهرين زارني كل زملائي كما حرص الأستاذ "أسعد فضة" –الذي كان مدير مديرة المسارح آنذاك- على الحرص على إيصال راتبي إلى منزلي، وعندما شفيت عدت إلى المسرح وأنا ما زلت في فترة النقاهة ورأيت وقتها الأستاذ أسعد فضة الذي قال لي قبل أن يلقي التحية علي "عد إلى منزلك حتى تُشفى تماماً".
أذكر أيضاً أن شاباً أتى للعمل هنا في المسرح فرآني كيف أتعامل مع هذه الآلات فضحك وقال لي: "إنك تعامل هذه الآلات كأولادك" فأجبته: "نعم إن لم أحببها لن تعطيني ولن تساعدني، إننا روح واحدة".
** إنها بيتي، أنا موجود في مسرح الحمراء كل يوم حتى في الأيام التي لا عروض مسرحية فيها، وفور وصولي ألقي التحية على زملائي وأصدقائي وأدخل إلى هذه الغرفة، لأتفقد الآلات، إن حبي لهذه الغرفة ولعملي جعلني أكره أيام العطل كثيراً، وهذا الكلام ينطبق على مسرح الحمراء ككل؛ لأنه المكان الذي عشت فيه أكثر ما عشت في منزلي وما زلت حتى الآن، في هذا المكان تعرفت على أناس كثر وكونت معارف وأصدقاء أعتز بصداقتهم دوماً.
** عندما أتيت إلى مسرح الحمراء، تعرفت على عامل كهرباء لم يدرس الصوت ولا الإضاءة، لكن الممارسة وحب العمل جعلته مبدعاً في مجاله هذا العامل كان "عدنان شعبو" الذي تعلم الصوت من خلال فهمه للكهرباء، إنه من علمني أساسيات المهنة، أذكر أنه قال لي مرة: "إن أردت التعلم فعليك العمل بيديك" لقد كان يدفعني دائما للأفضل وما زلت حتى اليوم أطلب مساعدته فيما يخص الكهرباء إن استعصى علي شيء.
ما أريد قوله لشبابنا اليوم الدراسة الأكاديمية مهمة جدا لكنها لا تنفع في شيء ما لم تقترن بالعمل وحب هذا العمل، عندما لا تعرفون اسألوا فالسؤال ليس بعيب بل العيب أن تبقى جاهلاً، ومن أراد منكم الوصول إلى هدفه عليه أن يؤمن بإرادته ويطور أدواته دائما فأنا رجل لدي أبناء شباب تعلمت منهم منذ سنتين العمل على الحاسوب ومنذ فترة تعلمت كيفية التواصل عبر شبكة التواصل الاجتماعي "face book" ولا أجد ضيراً في طلب المساعدة حين احتاجها.
هوشخص لا يبخل بمعرفته على أحد أبداً:
في الثمانينات طرح عليه طلاب من المعهد العالي للفنون المسرحية تساؤلات كثيرة والإجابات كانت تأتيهم دائماً دون تأفف أو ترفع، من بين هؤلاء الطلاب كان الفنان "علي القاسم" - سبق وأجرينا معه حوارا مطولا عن تلك السنوات –فماذا يقول اليوم في فؤاد العضيمي:
"إنه شخص لديه المعرفة التي لا يبخل بها أبداً بل يقدم معلوماته دون تكبر وبرحابة صدر، أعرفه من أيام الدراسة في المعهد العالي للفنون المسرحية، وأذكر أنه عندما أتينا إلى مسرح الحمراء لأول مرة كان من بين مستقبلينا لكن ما ميزه من غيره ابتسامته الجميلة، تعرفنا على بعضنا ومذ ذاك الوقت تجمعنا صداقة رائعة، فؤاد مجد وصادق بعمله، لم يتغيب يوماً إلا لظرف طارئ، يحترم الوقت ولذلك كنا نجده دائماً أول الواصلين، وكذلك يحترم زملاءه كثيرا هذا فضلاً عن إيمانه بمهنته.
أنا أرد كل هذه الأخلاق إلى التربية والتنشئة الصالحة ولا أريد أن أنسى الأرشيف الرائع الذي يحتفظ به والذي يحتوي على كل المسرحيات التي عرضت هنا في مسرح الحمراء بالإضافة إلى أمور أخرى.
يتقن عمله ولديه روح الدعابة:
المهندسة "بسمة شيخو" ورغم معرفتها القصيرة بالسيد "فؤاد العضيمي" وجدت فيه الإنسان الصادق واللطيف والمؤمن بعمله وقالت: "إنه شخص لطيف، لديه روح الدعابة، وشعرت أنه موسوعة نظراً للأرشيف المهم الذي كوّنه لنفسه، أما في العمل فهو ممن يتقنون عملهم ويبدعون فيه".