«عند لفظ كلمة تراث تنطلق عشرات وربما مئات الأسئلة التي تعيد إلى أذهان كل فرد منا تاريخاً مضطرباً من النقاش والجدل والمماحكة بل والتخندق السياسي أو الإيديولوجي أو الثقافي».
بهذه العبارات تحدث الأستاذ "حسان عباس" عن التراث الثقافي بين الماضي والمستقبل.
هو الموروث الديني والفكري والعملي والثقافي والحضاري الذي يمثل مخزون ذاكرة الأمة الإسلامية عبر تاريخها الحضاري، ومصدر هويتها المميزة لها عن غيرها من الأمم والحضارات
ثلاثة اتجاهات رئيسية تحدث عنها "عباس" ميزت الموقف من التراث في الحراك الفكري والثقافي خلال العقود القليلة الماضية بقوله: «أول هذه الاتجاهات موقف التبعية الذي ينهض على رؤية ماضوية ترى في لحظة من التاريخ، وفي عصر الإسلام الأول، وموقف القطيعة الذي يقف على رؤية حداثوية ترى في أي إرث من الماضي عبئاً على التقدم والتطور لابد من التخلي عنه لمن أراد الدخول في عالم الحاضر المتحضر، أما الموقف الثالث وهو التجديد الذي ينهض على رؤية توفيقية ترى الماضي أساساً لايمكن الاستغناء عنه، شرط أن يعاد إنتاج قوانينه ويجري التعبير عنه بلغات العصر وأحكامه».
هذه الاتجاهات الثلاثة يضيف "عباس" لم تظهر إلى الوجود عبر نظريات مصمتة، وإنما اختلف كل موقف منها إلى اتجاهات متعددة مصبوغة بصباغ الإيديولوجيا المهيمنة على المرحلة التاريخية وعلى المجتمع، وعلى الرغم من كل التباينات بين المواقف ثمة قواسم مشتركة تجمع بينها، ومنها اثنان على علاقة وطيدة بموضوع البحث وهما "أولية التراث الديني، ومركزية المكون الإسلامي".
وللدلالة على عمق حضور هذين القاسمين المشتركين نورد قول المفكر المصري "محمد عمارة" الذي عرف التراث بقوله : «هو الموروث الديني والفكري والعملي والثقافي والحضاري الذي يمثل مخزون ذاكرة الأمة الإسلامية عبر تاريخها الحضاري، ومصدر هويتها المميزة لها عن غيرها من الأمم والحضارات».
التراث الثقافي أصبح يتعرف بكل ما وصل إلى مجتمع ما من الماضي ولا يزال فاعلاً في هذا المجتمع حسب اعتقاد "عباس" وذلك انطلاقاً من تعريف الثقافة الذي اعتمدته اليونسكو في المؤتمر العالمي للسياسات الثقافية عام 1982
ويضيف "عباس": «حتى الأشياء والعلاقات والأفكار والعقائد الحديثة تدخل ضمن التراث الثقافي مع أنها لم تأت من الماضي، لكن اعتماداً على حقيقة أن الفكر الإنساني لا يحتمل القطيعة وإنما هي سلسلة متكاملة مترابطة دائمة التطور».
أما الضوابط والاتفاقيات التي تهدف إلى تصنيف التراث الثقافي في العالم التي وضعتها اليونيسكو لتلزم الدول بها قال "عباس": «من أهم هذه الضوابط اتفاقية الحفاظ على التراث العالمي الثقافي والطبيعي المعلنة في 6/11/1972 وقد وضعت تبعاً لها "لائحة التراث العالمي" التي تضم 890 موقعاً في العالم تعتبر جميعها عناصر من التراث الثقافي المشترك للإنسانية ومن هذه المواقع خمسة في سورية "مدينة دمشق القديمة، مدينة حلب القديمة، مدينة بصرى القديمة، تدمر، قلعتا الحصن وصلاح الدين"، والاتفاقية الثانية الحفاظ على التراث غير المادي المعلنة 17/10/2003 والتي صادقت عليها 140 دولة ومنها سورية وقد وضعت تبعاً لها "لائحة تمثيلية للتراث الثقافي غير المادي العالمي" وتضم هذه اللائحة ثمانية معالم من العالم العربي، مثل "الحكاية الفلسطينية وتغريبة بني هلال والمقام العراقي". ولا يوجد حتى الآن أي بند من سورية مثل "القدود الحلبية أو سيرة الظاهر بيبرس" أو غيرها».
لقد وضع التوافق الدولي حول معنى الثقافة على حد تعبير "عباس" الأساس النظري لمفهوم التراث الثقافي، وفي هذا السياق يتم تصنيف موارد التراث الثقافي إلى خمس فئات وهي "الموارد المادية الثابتة التي تضم الآثار والعمارة والمشيدات، والموارد المادية المنقولة وتضم المهن اليدوية، الموارد غير المادية كالذاكرة السردية والشعر والأدب والموسيقا وغيرها، الموارد الطبيعية وتضم موارد المياه الغابات والصحراء وأخيراً الموارد العملية والتي تضم كل أشكال الخبرات التي ابتدعها الإنسان أثناء صراعه من أجل البقاء مثل النواعير وصادات الرياح وقنوات الري، ورغم كون هذا التصنيف لا يقوم على جوهر علمي يقول "عباس": «في كل الأحوال يبدو واضحاً أن الغاية من وضعه هي بناء منظومة كلية قادرة على استيعاب كل المكونات الثقافية في شتى أرجاء العالم، انطلاقاً من خلفية أنتروبولوجية تتعامل مع الخصائص الثقافية للمجتمعات أو للجماعات البشرية».
والخلاصة التي توصل إليها "حسان عباس" مفادها أن التراث الثقافي كما يبينه هذا العرض لا يمكن أن ينحصر في واحد من مكوناته كما جرت العادة في الفكر العربي المعاصر، بل يتسع ليشمل كل ما له علاقة بين الجماعة والمجتمع والفضاء الذي تعيش أو يعيش فيه أي أنه يتسع ليشمل الحياة بكل ما فيها من حيوية وتنوع واستمرار.
وعن علاقة التراث الثقافي بالإنسان يقول "عباس": «التراث الثقافي لا معنى له لولا وجود الناس، حيث تتحدد أهمية المكونات التراثية نسبة إلى علاقة الناس بها، وبالتالي لا بديل عن هذا الإنسان في تحديد مكونات تراثه وفي توجيه التنمية المبنية عليها، ولكي يتحقق ذلك ليس من سبيل آخر سوى المجتمع المدني وهيئاته ومؤسساته، فهذا المجتمع ينشأ من حاجات الناس ومن إرادتهم في العمل الجمعي المتحرر من الانتماءات التحت وطنية أو الأهلية».
كل هذه الأفكار حول التراث الثقافي ومحاولات لشرح أهمية مقاربته كمنطلق للتنمية الثقافية والاجتماعية، ومناقشات عديدة قدمها الأستاذ الدكتور "حسان عباس" في محاضرة له بتاريخ 8/12/2009 في المركز الثقافي الفرنسي بدمشق.