فعلاً، لا بدَّ للثلج أن يذوب!
ذلك لأنه أمر محيّر، ومثير للجدل، وباعث على الأسى في آن.. وعلى درجة قصوى من الأهمية والخطورة في آن أيضاً..
أقول هذا، وأنا أقرأ ما يكتبه بعض المثقفين والعارفين العرب عما استبطنته الجوائز الأدبية التي صارت أشبه بالأشراك والمصائد للأدباء والكتّاب الذين يتطلعون إلى الحضور والموجودية بعد أن طالهم وطال أدبهم وكتاباتهم الإهمال، وبعد أن حيّدتهم الظروف الظالمة، والغايات القاصرة، والنفوس الدونية بحيث صار الفوز بالجائزة سبّة أو لعنة، أو صار موقفاً يمس الوطنية والقومية والأخلاق والسمعة بما لا يريده الكاتب أو يهدف إليه. فالكاتب، أياً كانت رتبته أو مستواه أو عمره الأدبي يطمح إلى التكريم من أبناء شعبه، ومن قرائه أينما كانوا.. ذلك لأن الكاتب بشر يعيش طفولته في كلِّ حياته، ولأنه صاحب التعبير الأدبي عن المجتمع، والمؤرخ للمستبطن والمضمر والمسكوت عنه، والرائي المتقدم في الزمن والمعنى على غيره من الناس..
ولأن الجوائز شكل من أشكال التكريم فإن الكاتب يسعى إليها كي تصفق روحه لموهبته الإبداعية التي عاشها سنوات وسنوات دونما تأييد أو احتفال أو تكريم، لكن أن تكون الجوائز أشراكاً وكمائن وأفخاخاً وحفائر أذى فهذا ما لم يتوقعه الكاتب أبداً، كما لم يتوقعه الناموس الاجتماعي!!
لقد قرأت مؤخراً فضائح عن الجائزة العربية التي سميت "بالبوكر" اقتداء أو مماثلة أو تماهياً مع الجائزة الإنكليزية التي تعطى للأدباء كتّاب الرواية تحديداً، وهذه الجائزة لم تتعد دورتها الثالثة في بلادنا العربية..
لقد قيل إن الإشراف على هذه الجائزة هو إشراف صهيوني، وأقول صهيوني لا يهودي قاصداً المعنيين الفكري والسياسي، والأمر لا يتم خفية أو من وراء الكواليس كما يقول أهل المسرح، وإنما يتم نهاراً جهاراً، وعلى نحو مفضوح، فالسيدة "ساشا" عضو أمانة الجائزة تعمل في مكتب أحد عتاة الصهاينة في بريطانيا، والمال الذي يدفع لتغطية نفقات الجائزة يأتي من منبعين أحدهما عربي، والآخر صهيوني وهذا خطير، وخطير جداً لأنه يعني بأن الأدباء العرب، أهل التجارب والإبداع، لا يكرمون من قبل مجتمعاتهم، ودوائرهم الثقافية وإنما يكرمون من قبل أعدائهم ودوائرهم السياسية والفكرية التي تريد بوضوح شديدة إبادة الشعب الفلسطيني تحت ما يسمى (التطهير العرقي)، وبناء الجدر الخارجية والداخلية من أجل صنع "غيتو" كبير للصهاينة في فلسطين العزيزة على حساب شعبها المهجّر في المنافي من جهة، وشعبها المظلوم الذي يعيش في حصار مقيت لا أخلاقي ولا إنساني منذ سنوات من جهة ثانية..
لكن الأخطر، والأمرّ، والموجع.. يتمثل في أن أصحاب الجائزة يريدون شيئاً آخر غير تقديم المال، وترجمة الأعمال الأدبية الفائزة إلى اللغات الأجنبية، هذا الشيء الآخر هو أن يكتب الكتّاب العرب الروايات وفق أهواء وأمزجة وقناعات ورؤى أصحاب الجائزة ومانحيها، وأن يختاروا محكمين لها لديهم الاستعدادات الكاملة والتأييد المطلق لأفكارٍ واتجاهاتٍ لا علاقة لها بالقضايا المصيرية للأمة العربية، والمجتمع العربي.. كأن تصير أفكار (التطبيع)، والحوار مع (الإسرائيلي) بوصفه ـ كما يقولون ـ جهةً للحوار، ودمغ المجتمعات العربية بالسوداوية والتخلّف، وسحق المرأة بوصفها مخلوقاً تابعاً، والدعوة إلى (التسامح)، و(الاعتدال)، و(الواقعية)، والرضا بما هو حاصل، والتسليم بما يريده الأعداء، ومن ثم جعل الكتابة تنصب على الجسد، والعلاقات الثنائية بين المرأة والرجل، أو الرجل والرجل، أو المرأة والمرأة... وصفاً وتوصيفاً لا يعرفان الحياء المعرفي بالمطلق.
إن هذه الأفكار والتوجهات والأهداف التي يريدها أصحاب هذه الجائزة، وما شاكلها من جوائز مماثلة إن استمرت ستصير المدونة التي يكتبها جميع الكتّاب العرب من المحيط إلى الخليج، وفق تبريرات مغلوطة تقول إن الكتابة عن الآخر، ويقصدون به العدو، (وهو عدو وليس بآخر) والحوار معه يعني التسامح، والإخاء..
وهنا أسأل أين كان التسامح والإخاء حين طرد الشعب الفلسطيني من أرضه في كل أنحاء الدنيا؟
وأين كان الإخاء والتسامح حين اقترف الصهاينة مجازر دير ياسين، وقبية، وكفر قاسم، وجنين، وغزة، وقانا، وبحر البقر، وداعل؟!
وأين هما الإخاء والتسامح، وشعب غزة (أكثر من مليون ونصف المليون) في حصار غير مسبوق في العالم جعل الناس يحفرون الأنفاق مثل (الخلدان) كي يأكلوا ويشربوا ويتعلموا!
كما أن هذه الأفكار والتوجهات التي تؤكدها هذه الجوائز سنة بعد سنة.. ستجعل كتاب الرواية العرب لا يكتبون إلا المغامرات الجنسية، والخلاعة، والتفاهة الدونية والحيوانية، والاستعراض الجسدي الذي يشوّه الأخلاق وكينونة الإنسان.. وذلك تحت مسمى (أدب الاعتراف) أو (أدب البوح والتصريح) أو (أدب المساررات الجسدية)..
إنني أدعو الكتّاب العرب، ومن موقعي الأدبي، إلى أمور عدّة، في طالعها، أولاً: الانفضاض عن هذه الجائزة ومثيلاتها التي لا تؤيد أهداف الأمة العربية الاجتماعية، والوطنية، والقومية، والإنسانية، كما لا تؤيد الأدب الرفيع.
ثانياً: كشف المستور الذي يقف وراء هذه الجوائز وفضح مراميه وأهدافه. وكشف المتعاونين معه سواء أكانوا من الأقربين أم الأبعدين.
ثالثاً: فضح مضامين الروايات التي فازت بالجوائز السابقة، في الأعوام السابقة، وبيان توجهاتها وأفكارها.
رابعاً: إنني أطالب الأدباء والمثقفين العرب بالضغط الأدبي والفكري والمطالبة الصريحة القوية بأن تكون لهم جوائزهم الوطنية والقومية المهمة كي تجعل من هذه الجوائز ذات الشبهة علامةً سوداء ليس إلا..
عندئذٍ سنقول مع القائلين: الآن، ذاب الثلج وبان المرج!