«يعد الشعر عاملاً أساسياً في تنمية الساحة الثقافية إضافة للأجناس الأدبية الأخرى، ومازال الشعر يحمل الإيقاع النغمي الذي يطرب المتلقي هذه الأيام كمجموعة "الحواس أكثر أزيزاً" للشاعر "مجيب السوسي"، الذي يعي خطواته، في مراحل قصائده وشاعريته».
هذا ما تحدث به الأديب "أحمد جميل الحسن" لموقع eSyria بتاريخ 21/3/2009 وأضاف يقول: «اليوم نحتاج لمن يُقّوم هنّات الشاعر كناقد متمكن من أدواته النقدية وحيادي الموقف لأن النقد هو حاجة ملحة لنا لتطوير الفن، وحاجتنا لنقاد موضوعيين أمثال الدكتور"عاطف البطرس" الذي يقدم دراسات نقدية موضوعية».
نحن لا نكتب نصاً جديداً، وإنما نضع توقيعنا على نصوص سابقة تحمل بصمتنا وحرارة تجربتنا
موقع eSyria التقى الدكتور "عاطف البطرس" بالحوار التالي حول رأيه النقدي بمجموعة "الحواس أكثر أزيزاً" للشاعر "مجيب السوسي":
** المجموعة تطرح علينا أكثر من تساؤل، ولعل الأهم منها شكل القصيدة أكانت من القصد "الإبلاغ" أو من الاقتصاد الإيجاز والتكثيف والصحيح تتكون من الاثنين معاً، وهي تمتاز بوحدة بنائية في كل قصائدها، تحلينا إلى تجربة شعراء الستينيات "وهذا ليس حكم قيمة" تلك التجربة التي اعتمدت على بناء متماسك ينمو داخلياً بفعل تراكم العناصر المكونة، ليحدث عند المتلقي حالة شعورية قريبة من الحالة التي عاشها الشاعر قبل وأثناء كتابة القصيدة "المعادل الموضوعي" هذا الشكل البنائي الدرامي، يعود اليوم كشكل فني رداً على تفتيت الوحدة الكيانية للإنسان المعاصر وشرذمته واستلابه وجعله سلعة تطرح في سوق التداول والاستهلاك اليومي، مما يؤدي إلى غربته وتشييئه، ما نقرأه اليوم "إن سمي شعراً" ليس أكثر من تهويمات وتداعيات تحمل أسماء مختلفة تعتمد التشكيل اللغوي بعيداً عن المعنى أو الهدف والقصد، غايتها وجل مرماها التعامل مع اللغة وإبراز إمكانيات الشاعر بخلق علامات تجريدية لا تفضي إلى دلالة ولا تعود إلى معنى، صور مجازية معزولة منفردة، معلقة في الفراغ دون رابط منطقي أو شعوري، يوهم بما يريده الشاعر، وكل نص لا يحمل خطاباً ليس جديراً بالقراءة.
** المجموعة شعرية حقاً فهي تقدم قصيدة متماسكة البناء، يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي، الشخصي بالوطني، بالقومي، بالإنساني، دون حواجز أو فواصل، وبذلك يجابه الواقع المتردي المفتت المتشرذم، بشكل فني متماسك، لأن الشكل تملّك جمالي للواقع، خروج عن أسر ضروراته طلباً للحرية المؤدية إلى التغيير.
** ما يمكن أن نطلق عليه صناعة القصيدة، ونعني بها مواجهة الطبع، الذي جنح هذه الأيام إلى السهولة والتبسيط بحجة الانتشار والاقتراب من المتلقي وذائقته القصيدة، والطبع وحده لا يصنع قصيدة لأنها ثقافة وتجربة معرفية وعاطفية، إنها رؤية للعالم وللإنسان في تداخل العلاقات فيما بينهما، والمجموعة وثيقة الصلة بالعقل وأكثر ارتباطاً بالتجربة التي يمتلكها الشاعر وهي مديدة في الزمان وفي الإبداع، لم يعد الشاعر يدرك بحواسه بقدر ما يفكر بها، قصيدة الشاعر "مجيب" مصنوعة بدقة، المهارة فيها "البساطة" المخادعة تختفي تحت شعار الطبع وهي رد على دعاة العفوية "قرب التناول، الشعر دفق شعوري أو لا شعوري".. الصنعة والطبع.. ثنائية ليست ضدية، فالشعر المطبوع صنعة، والصنعة عند الشاعر تصبح طبعاً، ولن ندخل في فهم القدماء للقضية، من المدرسة الأوسية عبوراً "بأبي تمام فالمعري" إلى سؤال المعاصرة، هل يمكن للشعر أن يحمل معرفة، أم هو تعبير عن الوجدان، يثير أسئلة أكثر مما يقدم أجوبة، يوحي ولا يقول، يعد ولا يفي، العفوية لا تعني إهمال الصنعة، لأن الشعر حرفة مهارة وصياغة إنه لغة داخل اللغة، من القضايا التي تثيرها المجموعة، علاقة الشاعر بالتراث أو بشكل أدق بالموروث الشعري، تبرز الصلة وثيقة بين الشاعر وبين التراث العربي "شعراً ونثراً" من خلال المقبوسات والتناصات المقدمة بشكل فني في سياقات نصية جديدة، وتوظيف لبعض صورة "مريم" وما زاد التوظيف جمالاً واقتضاه أن القصيدة تتحدث بلسان الشاعر عن "فلسطين" و"مريم" فتاة فلسطينية خرجت من قلب الأسطورة "الحكاية" إلى التجربة المباشرة والدلالة المعاصرة، وهنا لا نريد أن ندخل في إشكاليات التناص وإمكانياته وهو ليس قليلاً في المجموعة، نكتفي بالقول: "يتشكل النص في سياق علاقته ببنية نصية أخرى سابقة عليه أو محاذية له، لكنه يتفاعل معها وينتجها من جديد، فيما هو ينتج نفسه من خلالها بمحاورتها أو حتى بخرقها وتفجير دلالتها.
** نحن أمام نص جديد يعيد إنتاج نص سابق، والشعر والثقافة عموماً ليست أكثر من تناص.. نص على نص، وكما قال المرحوم "نزار قباني": «نحن لا نكتب نصاً جديداً، وإنما نضع توقيعنا على نصوص سابقة تحمل بصمتنا وحرارة تجربتنا».
** من اللافت في المجموعة العلاقة الجدلية التي قدمها الشاعر في تجربته الفنية في المزج الكيميائي بين اللغة التراثية والمفردات المعاصرة، وهنا يبرز بجلاء المضمر النسقي الثقافي الذي يمتلكه الشاعر هذا المضمر قدرة هائلة على التخفي، لكنه يعاود الظهور بأشكال مختلفة مختلقاً من جديد أفكاراً في بعض الأحيان، وصوراً في حين آخر ومفردات في كثير من الأحيان، هذه التجليات تحتاج إلى قراءة نسقية أخرى للمجموعة لسطوعها، وحضورها البارز لكننا سنقتصر على أبسطها وأكثرها دلالة "الألفاظ".
** بنظرة بسيطة إلى نصه تبني بجلاء ما ذهبنا إليه من ظهور المضمر النسقي الثقافي التراثي وكيف امتزج كيمائياً بالصور والمفردات المعاصرة، تسربل، حمحم الخيول، مع البياض الأليف، يشد دمي، يخطف المرايا الحليب الصباحي، أو بهديل الحمام، وهذا يذكرنا بمعلقة "عنترة العبسي" ومناجاته لجواده الذي تسربل بالدم فشكا إليه بعبرة وتحمحم، "الحوار.. تراسل الأجناس" يؤكد هذا المقبوس على عمق التواصل الوجداني والشعوري "التجربة الجمعية" المخزون الثقافي والعلاقة الجديدة للتشاكل والتشكيل بينهما "التراث والمعاصرة" على أساس النسق القديم ثم مواجهته بوعي مختلف ومخالف له يكسر صلابته النسقية مفسحاً المجال في الصيرورة والتشكيل لولادة جديدة عليها ضرورات الحاضر واستحقاقات المستقبل، التواصل المتمرد بديلاً عن القطيعة المطلقة التي يستحيل أن توجد عملياً لأننا أبناء الثقافة بوصفها فعلاً تراكمياً ومهما حاولنا الهروب من ماضينا المعرفي فهو يسكن فينا، نحن الماضي والحاضر والمستقبل، والشاعر والفنان الحق، ومن امتلك الماضي وتمثله يحق له أن يقول بعدها بالتجاوز والتخطي، أما إذا أطلقت مسدسك على ماضيك "التاريخي والثقافي" أطلق المستقبل مدافعه عليك، الإبداع رحلة تواصل واتصال، والمسألة في الرؤية ووجهة النظر والموقف من التجربة ومن الإنسان والكون.
اعتمدت المجموعة "التفعيلة" كناظم وزني مع تلوين في الإيقاع وفن ضرورات الموضوع، ولم ينوع الشاعر في الأشكال كما هو سائد اليوم، بحيث نجد في المجموعة الواحدة خليطاً أجناسياً، وهذا يدل على ثقة الشاعر بتجربته الفنية واستقراره على وحدة وزنية مع اختلاف في أشكال التعبير من لغة وصورة وتركيب.
وهناك ملاحظة: لماذا لم يحاول الشاعر التجريب؟، ونحن نعرف أن له تجربة في كتابة قصيدة الشطرين، هل أغلق الباب واستقرت الأشكال، أم أن هناك مطلقاً احتمالياً لتوالد الأشكال والإيقاعات، الشعر لا يستقر على شكل، هو يفجر شكله باستمرار لأنه كشف لعالم يحتاج إلى اكتشاف دائم، والكشوف في الشكل هي المحدد لأدبية النص "شعرية القصيدة" اختبار الشكل موقف وليس رغبة شكلية، إنها وعي حضاري ودلالة اجتماعية.