يعتبر الروائي والكاتب الدرامي "قمر الزمان علوش" أحد الذين وضعوا بصمتهم على مسيرة الدراما الفنية السورية، يتعامل مع الرواية كما في العمل الفني بمخيلة مطلقة السراح، مانحاً الأحداث الإثارة والتشويق، جاعلاً من أسلوبه الرشيق والمتين مدخلاً لدهاليز كنوزه الشبيهة بالجواهر الدقيقة المنتظمة في عقد فريد.
يشدك إلى عالمه بخدعة أدبية عنوانها الواقع المرئي، تفاصيلها الخيال وانعكاس الصورة الخفية، هذا ما كان ينشده الروائي والكاتب "قمر الزمان علوش" حول رؤيته للأدب والدراما السورية.
هناك عنصر هام يطفو على السطح عندما نقارن الرواية بالدراما وهو الخيال، من الصعب جداً أن نطالب المخرج أو الممثل في العمل الدرامي بالتعبير عن الحالة النفسية للشخصية أوعن أفكارها الخفية، وهذا ما تستطيع الرواية أن تقتحمه على لسان الراوي الذي يعرف كل شيء، ففي الرواية لدى الكاتب مساحة كبيرة من الحرية ومسافات وهوامش فسيحة لاستخدام الفلسفة وعلم النفس وقوانين علم الاجتماع، بما يمتلكه الكاتب من أساليب وتقنيات تمكنه من تقديم شخصياته بصورة أوضح وأعمق مما هي في الواقع المرئي، وهذه ميزة تكون لصالح الأدب على حساب الدراما
موقع "eSyria" كان في زيارة خاصة إلى بيت الكاتب والروائي "قمر الزمان علوش" حيث مضى بنا إلى عالمه الأدبي الدرامي، ليروي لنا في البداية قصة تحويله لعدة روايات عالمية إلى أعمال فنية، فيقول: «إن مسلسلي "ليل المسافرين" و "الأرواح المهاجرة"،هما من الأدب العالمي، وهما مثالان حول طريقة التعامل الفني مع الراويات الشهيرة ذات البعد العالمي، ففي "ليل المسافرين" المأخوذ عن رواية "البؤساء" لـ"فيكتور هيغو"،اعتمدت على الفكرة الأساسية فقط، وهي فكرة تحول لص سجين إلى عمدة ومحاولته تطبيق قوانينه الإنسانية التي اختبرها في السجون، بحيث لم أقترب من عالم هذه الرواية إلا في الحلقات الأخيرة للمسلسل، مضيفاً إلى مفهوم العدالة الأرضية التي تركز عليه الرواية مفهوماً آخر أوسع هو العدالة القدرية أو اختلالها، بحيث يقف الإنسان عاجزاً عن مواجهتها، وفي "الأرواح المهاجرة" اختزلت الكثير من الأحداث والمشاهد، وابتعدت قدر الإمكان عن بعض الأشياء التي تمس روح المجتمع الشرقي مثل؛ السحر والمغامرات النسائية والتنبؤ بالمستقبل، إذ تم إسقاطها تماشياً مع معايير ومنظومات الرقابة الفكرية والفنية في مؤسساتنا الثقافية والمجتمعية».
للكاتب "علوش" تجربة كبيرة في كتابة أعمال السيرة الذاتية، ونذكر هنا مسلسلي "نزار قباني" و"أسمهان"، وعن هذه التجربة يقول: «لا شك أن هذين المسلسلين هما في غاية الأهمية في مسيرتي الفنية، وعندما قبلت الكتابة عن هاتين الشخصيتين كنت على قناعة راسخة وإيمان كبير بأهمية الفكرة، وهذه طبيعة علاقتي مع الكتابة، فكل عمل لا يتناسب مع خياراتي الفكرية والفنية أرفضه بكل تأكيد، ولقد نجح العملان إخراجياً وجماهيراً، ولكن لا بد من القول بأن هناك عائقاً تعاني منه الدراما السورية والعربية عموماً، هو عجز الصورة عن مجارة الخيال، في الدراما تعاني الصورة من قصور في نقل الخيال كما هو في الرواية أو السيناريو بحرفيته التامة، ولهذا سنجد دائماً نقصاً في العمل الفني بنسبة 30% على الأقل عن العمل الأدبي، لأن الإمكانيات الإخراجية والإنتاجية محدودة في هذا الإطار».
يتنقل "علوش" في كتاباته بين عالمي الرواية والدراما التلفزيونية بسهولة ويسر رغم الاختلاف بين تقنياتهما ومساحات الخيال داخل بينهما، وهنا يذهب "علوش" قائلاً: «من الناحية الفنية لكل جنس فنيته وخصوصيته، في الوقت نفسه كل جنس منهما يخدم الجنس الآخر، بمعنى أن التقنية الروائية يمكن أن تخدم التقنية الدرامية والعكس صحيح، في الرواية وفي المسلسل التلفزيوني يعتمد الكاتب على رسم المشهد والحوار لبناء عالمه الأدبي والفني، وبالتالي فالتقنيات هنا تخدم بعضها بعضاً، أما عن تفاصيل هذه التقنيات فهي مختلفة بشدة، في السيناريو التلفزيوني يهتم الكاتب بالتفاصيل الصغيرة؛ حيث يقوم بتجميعها وتركيبها ليعطي في النهاية الديناميكية للعمل الدرامي بما يخدم تطور الحدث والحكاية، وهنا يستخدم الصورة والكادر والعمق وحركة الممثلين التي تُعنى بتشكيل المشهد الدرامي، بينما يمكن اختزال كل ذلك في عبارة أو إشارة سريعة في الرواية».
ويضيف: «هناك عنصر هام يطفو على السطح عندما نقارن الرواية بالدراما وهو الخيال، من الصعب جداً أن نطالب المخرج أو الممثل في العمل الدرامي بالتعبير عن الحالة النفسية للشخصية أوعن أفكارها الخفية، وهذا ما تستطيع الرواية أن تقتحمه على لسان الراوي الذي يعرف كل شيء، ففي الرواية لدى الكاتب مساحة كبيرة من الحرية ومسافات وهوامش فسيحة لاستخدام الفلسفة وعلم النفس وقوانين علم الاجتماع، بما يمتلكه الكاتب من أساليب وتقنيات تمكنه من تقديم شخصياته بصورة أوضح وأعمق مما هي في الواقع المرئي، وهذه ميزة تكون لصالح الأدب على حساب الدراما».
ومن هنا فالأدب في اعتقاد "علوش" عندما يسعى إلى صورة الإبداع يكون منفتحاً على جميع الاحتمالات، فيؤكد بقوله: « أعتبر أن الكتابة الروائية في نطاق دائرة محددة مسبقاً ومرصودة بقيود نقدية ومفاهيم سياسية مسبقة ومذاهب أدبية ثابتة، هي قتل لفكر المبدع الخلاق وتقزيم له، والمعايير التي وضعتها مذاهب الواقعية الاشتراكية أو الكلاسيكية الباهتة لأدبنا في الستينيات والسبعينيات كانت مقتلاً للأدب وخصوصاً الروائي منه، وحولته إلى ما يشبه البيان السياسي أو التقرير الاجتماعي، حيث يحدد الكاتب مسار الرواية مباشرة في ذهنه قبل البدء بكتابتها، ويحمّل شخصياته الأفكار السياسية التي يود أن يروجها، على قناعة أنها شخصيات من الواقع وصراعاته، لقد قبلت الاشتراكية كفكر فلسفي أو اجتماعي، ولكن الأدب والفن ليسا صورة عن الواقع أو انعكاساً له، إنهما مرآة تحلل وتعكس بذرتها الواقع وثمرتها الخيال، ومع التغيرات السياسية والفكرية للعقدين الأخيرين بدأ العالم يتجه نحو أنماط الحياة وأنماط الفن المعبرة عنها، وبالتالي كان على الأدب أن يخضع لهذه المتغيرات».
في رواية "بريد تائه" حيث تجري الأحداث في أواسط الستينيات من القرن الماضي في سورية، من هذه المرحلة الانتقالية التقط "علوش" شخصياته وبنى عالم روايته كما لو أنه يبنيه من الحلم، وعن هذا يقول: «لقد تجنبت الانخراط في لعبة البيان السياسي، فلم أكن مع أو ضد أي طرف سياسي، ولم أتدخل في صراعات الأطراف، كان هاجسي يحوم وراء الانعكاسات الروحية داخل البشر وعلاقتهم مع العالم الخارجي من خلال تصرفاتهم ومواقفهم، أعطيت الصورة الأخرى غير المرئية عن الحياة، وابتعدت عن الحدث السياسي المباشر، ولذا كان همي أن أحلل وأعكس تلك المرحلة الهامة في تاريخنا المعاصر من خلال آثارها التي تركتها في نفوس الناس وتحولاتهم وأحلامهم، ولذلك سيجد القارئ أن البشر في هذه الرواية هم مزيج من الواقعية والخيال، لهم سمات واقعية معروفة وملموسة وأحياناً يمتلكون خاصية أسطورية».
إذا أردنا أن نصنف "قمر الزمان علوش" ضمن المدارس الأدبية فسوف نراه يغرد خارج السرب، ويطير في عالم الخيال حراً وعرضة لجميع الاحتمالات، حيث يشير إلى موقفه هذا بقوله: « الأدب الراقي هو الذي يحمل في بنيته الجمال والإثارة، وإيقاظ الوعي بغض النظر عن انتمائه لأي مذهب أو مدرسة، العمل الروائي هو محاولة للاقتراب من صورة العصر وروحه، أن يخرج العمل الروائي بحكمة العصر والقيمة الإنسانية العامة، ويدون التاريخ الإنساني بالإحساس فكراً وفلسفة، أرفض أن يتحول الكاتب الروائي إلى كاميرا فوتوغرافية، عليه أن يخرج ما وراء الصورة إلى الرؤية، ويستوحي ما وراء هذا العالم مما هو خفي وغير مرئي ليكتشف ما لا يراه الناس، وهذا يعني الانغماس في ألم الإنسانية الواقعية ثم الخروج إلى بهاء الحالة المشتهاة، فالرواية كالبرق اللامع في الليل، قصص وخفايا وعواطف وذكريات تبرق فجأة عبر السرد الفني، ثم فجأة تبقى الصورة القديمة الجديدة للعالم مفسحة الطريق لرواية أخرى وتجربة إبداعية أخرى».
ومن الجدير بالذكر أن الكاتب والروائي "قمر الزمان علوش" ولد في مدينة "جبلة" في عام 1948، عمل الكاتب في الصحافة السورية منذ عام 1974 حتى أواسط التسعينيات، بعد ذلك انتقل إلى الكتابة الدرامية في التلفزيون، فكتب عدة مسلسلات طويلة هامة منها "هوى بحري"، و"الطويبي"، و"طيور الشوك"، و "نزار قباني" و"أسمهان"، كما حوّل عدة روايات عالمية إلى أعمال فنية منها "بيت الأرواح" لإيزابيل الليندي، و"البؤساء" لفيكتور هيغو، وذلك بالتعاون مع أفضل المخرجين في الدراما السورية أمثال "باسل الخطيب" و"أيمن زيدان" و"شوقي الماجري"، ورواية "بريد تائه" هي روايته الثانية بعد "هوى بحري"، وتليها رواية "لحظة رحيل" تحت الطبع.