كل قصيدة من قصائده تشكل عالماً من الرؤى المدهشة، تنحل فيها لونيات اللغة في ماء المعاني والأفكار وتسلمها إلى ريشة خيال خلاق يوقّع تصويره على "شيء يخص الروح".
موقع "eDamascus" التقى الشاعر "شوقي بغدادي" وكان معه الحوار التالي.
أن التجربة الشعرية "لشوقي بغدادي" ثمثل قارة شعرية مترامية الأطراف، في الزمان والمكان والأحداث، فنهضت تجربته من منبثقاتها الأولى على إنسانية الإنسان في كفاحه من أجل مستقبل أفضل
** تولد التحدي من الثقافة المكتسبة للمرء، والثقافة الاشتراكية عودتنا على التفاؤل الثوري الذي لم أعد أؤمن به الآن، فالثقافة التي حملتها في فترة الإيمان بالنظام الاشتراكي متفائلة، لأن النصر الذي كنا نؤمن به مؤكد، ولأن الناس مقبلون على تغيير اشتراكي يلغي الرأسمالي، والمفارقة أن هذه الرؤية التي حرضتنا على الأمل والصمود والتحدي انهارت، دون أن ينهار الأمل.
** في السابق، كان اهتمامي بالقضايا الوطنية أكبر من القضايا العاطفية، فشعر الثمانينات يرتكز على قضايا أمتي، ومر علينا أنظمة ديكتاتورية مختلفة واستبداد كبير، وواجهناه بأساليب مختلفة، لكن القلب لابد أن يغني على هواه، فالشاعر يسهر في الليل ويسبح مع النجوم ويغتسل في ضياء القمر، فيتأثر ويكتب بهذه الصلات الرائعة بين الإنسان والطبيعة، وتجد في القصائد السياسية أشياءَ ليست سياسية بل إنسانية، لكن الناس كانوا مهتمين "بشوقي بغدادي" الشاعر السياسي فقط.
** لم أنزعج حينذاك، لكنني انزعجت متأخراً لأنها لا زمتني، رغم أني تركت هذا النوع من الشعر، واتجهت للشعر الذاتي العاطفي والوجداني، والكثير من الجهلة لا يعرفون من شعري إلا بعض القصائد التي ألقيت في مناسبات معينة، فيحكمون علي بأنه ليس لدي إلا هذا النوع من الشعر، ويبدؤون بتوجيه النقد لي، وسيأتي يوم أنصف فيه، خاصة أنني أضعت الكثير من عمري في نضالات وهواجس ابتعد الناس عنها، والآن أنا مع الإنسان في كل مكان مع العدالة والفن والأدب الجميل.
** من ينصفني الآن وقد فات الآوان، معظم النقاد لا يقرؤون شعري جيداً، حييث سألت أحد النقاد الكبار الذين "يدعون الفهم"، هل قرأت شعري وقصصي بأكملها؟ كان جوابه النفي، فعلى أي شيء تبني أحكامك، وقد ألفت كتاباً تتحدث فيه عن الشعر في سورية، فقال من بعض ما قرأت في الصحف والكتب التي تحدثت عنك، بالله عليكم، كيف يرتاح ضمير مثل هكذا ناقد عندما يكتب عن "شوقي بغدادي" دون أن يقرأه كاملاً؟ لقد تحدث عني النقاد دون قراءتي كاملاً، واطلعوا على بعض القصائد التي قيلت بزمن معين، وقرأوا كتباً لنقاد يكرهون "شوقي بغدادي" لأسباب فكرية معينة، لذا يتهمونني بأمور معينة، فخلال /20/ عاماً طبع لي حوالي /10/ دواوين ولم يطلع عليها أي من النقاد، فلا يطلعون على أي شاعر بشكل كاف، إلا إذا كان مشهوراً مثل "محمود درويش" فإنهم مجبرين أن يطلعوا عليه ويقرؤوا كامل شعره لوجود مؤسسات تحميه، أما "شوقي بغدادي" لا يوجد مؤسسة تحميه، لأنه تخلى عنها، فلم يبق سوى أصداقئه أو أن يحمي نفسه، والنقاد يكتبون عن شعراء سورية متجاهلين الكثير من الأسماء، رغم أنها من أهم المبدعين، وهذه من عيوبهم، والسبب يعود إلى نوع من الكسل الفكري والنقدي، وإتباعهم "موضة المدارس الجديدة" كالمدرسة "البنيوية" و"التفكيكية"، التي تأتي من "أوروبا" فيتحدثون عنها كثيراً، ويعجبون بشاعر معين بالتالي يطبقون عليه نظرياتهم الجديدة.
** لست متشائماً بل ضاحك منذ قديم الزمان، والقضايا الكبرى التي حملتها جعلتني أنغمس باللعبة إلى أخمص قدمي، وهذا يتطلب نوع من الجدية والرصانة، ويبعدني إلى حد ما عن الفرح الذي كان موجوداً، ومع الوقت انتبهت إلى أن شعر التفجع والكآبة غالب على الشعر العربي بشكل لا يطاق، وبعض الشعراء يعيشون حياة سعيدة، بكل أبعادها فلا تراه يكتب شعراً بوصف الفرح والسعادة، وتنبهت لهذا الموضوع، فأردت أن أرد على هذه الموجة، وعلى تيار النحيب والندب وجلد الذات بهذا الشكل، فبكيت كثيراً وشكوت كثيراً، إلى أن تنبهت لجمال الحياة التي تستحق من الكاتب أن يعيش الفرح، وكنت قد كتبت عن الحزن كثيراً وعن الكآبة أكثر وعن الموت أكثر بكثير، وآن الآوان لأكتب عن الفرح، رغم الفواجع التي تحصل، فحين فكرت بعنوان لديواني لم أجد أفضل من "ديوان الفرح".
** الفنان والمبدع يستسلم لليأس كإنسان، وليس كمبدع، ولكل إنسان نقاط ضعف، فالخوف فيه حالات مرضية واجتماعية وسياسية، وإذا قصدنا بالخوف المعنى المتداول، كالخوف من المجهول والاضطهاد والاعتقالات والظلم، والخوف من الفئات التي تراقب كل من "يشذ عن الجماعة ويتمرد عليها" فتعاقبه، وهذا ما وقع "بالجاهلية كطرفة بن العبد" الذي خرج على قبيلته، كذلك فعل الصعاليك بتمردهم، وهناك أسباب تدفع الشاعر لأن يكون حذراً، كي لا يمس بشعره مؤسسة اجتماعية معينة، فأوروبا فيها مؤسسة تراقب "المعادين للسامية" وتحاسب كل من يكتب منتقداً "اليهود"، يعاقب بالقانون كجريمة ويخلق حالة خوف من المؤسسات الاجتماعية، كذلك السلفيين الذين باتوا يشكلون مراكز قوة اجتماعية تثير الخوف في نفوس الناس عموماً والأدباء خصوصاً، ولديهم القدرة لاستنباط أي كتابة بأنها تخالف الدين أو الشريعة ويستحق كاتبها العقاب، وهو ما حصل للكاتب "نصر حامد أبو زيد" وغيره، وهنا تجدر الإشارة إلى أن الشعراء أكثر حساسية بين المبدعين لمثل هكذا أمور، لأن الشعر ذاتي أكثر من الفنون الأدبية الأخرى كالقصة والرواية والفن التشكيلي، وهو تعبير عن خلجات ووجدان وهواجس تعاش في الشاعر وتمثله، لذلك تستطيع أن تكتشف شخصية الشاعر من شعره، وهذا ما لا يحصل مع غيره من المبدعين، فلا يكن استنباط شخصية الروائي من روايته، لأن الشعر يفضح صاحبه أكثر من غيره، لهذا السبب فإن الشعراء يتأثرون أكثر من غيرهم بحالة الخوف، وكشاعر تنتابني هواجس من هذا النوع ترتبط بقصائد معينة توجه النقد الاجتماعي والسياسي لمؤسسة معينة أو نظام سياسي، فأخشى من غضب هذه المؤسسات، لقدرتها على معاقبة الشاعر ومحاسبته، خاصة أن الأخير لا يستطيع أن يدافع عن نفسه بوجه مؤسسة أو نظام معين، إلا في البلاد الديمقراطية التي يسود فيها القانون، أما البلاد التي يغيب فيها القانون كبلادنا العربية، فلا أحد يدافع عن الشاعر، لذلك فإنه مهدد بالخوف أكثر من زميله الأجنبي، لأن تلك البلاد يسود فيها القانون الذي يحمي الجميع، بينما بلادنا العربية لا يوجد فيها مؤسسة تحمي المفكر والمبدع، لأنهم معرضون لتهديد السلطات، ومقاومة هذا التدخل مرتبط بالشاعر نفسه، من خلال استعداده النفسي والبيولوجي ومدى قدرته على التضحية، فلا يوجد شعراء شجعان وآخرون جبناء.
** وهبت نصف حياتي إلى رؤية إنسانية هدفها العدالة الاجتماعية، فقد أمضَّني الفقر والتمزق الاجتماعي وتخلف العرب واستهوتني الاشتراكية، وكتبت فيها كثيراً، لكن بعد أن رفع الغطاء عن "وعاء الاشتراكية" صعدت الروائح الحقيقية للفساد الذي أكل الاشتراكيين والقادة والجماهير معاً، فالاشتراكية التي كانت المثل الأعلى لنا، أصبحت مثالاً للدولة "البولسية" التي لا علاقة لها بأفكار العدالة والاشتراكية، وأقول بعيداً عن الأوهام إن الاشتراكية قد تتحقق بمجتمع الملائكة، وأقصى أماني البشر الآن، تحقيق العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة وسيادة دولة القانون، لذلك فإن محطة الخمسينات والستينات انتهت بالنسبة لي، لذا أكتب بروح أخرى.
** أي فنان أو أديب يقف أمام قضية كبرى تهدد مسيرة أمته، لا يقف متفرجاً عليها، بل لابد له من المشاركة فلا تكفي النوايا الطيبة التي لا تصنع فناً ولا أدباً، والفنان والأديب مطالبان بالمشاركة، شريطة أن يحفاظا على المستوى الفني الرفيع الذي يليق باسمه وباسم الفن والأدب.
الشاعر "عبد القادر الحصني" رأى «أن التجربة الشعرية "لشوقي بغدادي" ثمثل قارة شعرية مترامية الأطراف، في الزمان والمكان والأحداث، فنهضت تجربته من منبثقاتها الأولى على إنسانية الإنسان في كفاحه من أجل مستقبل أفضل».
ولفت "الحصني" إلى أن هذه التجربة عبرت عن نفسها بمنحيين كبيرين عملاً على تكاملها، حيث أخذ المنحى الأول طابع المواجهة السياسية، انتصاراً للناس المضطهدين من أنظمة سياسية فاسدة، سلبتهم قوتهم وكرامتهم، فيما كان المنحى الثاني الغناء للحرية، فما من قصيدة من نصوص "البغدادي" إلا وفيها توق للحرية على نحو ظاهر أو مضمر».
واعتبر "الحصني" أن المنحيين يمتزجان إبداعياً، ليشكلا الحياة في عنفوانها وجمالها وصدقها الأخّاذ، فينفرد بين شعراء الحداثة في "سورية" بمعلمين بارزين أولهما ماثل في قصائده التي كتبها "لدمشق"، حيث كتبها من حواريها وأسواقها ومساجدها وكنائسها وأطفالها ورجالها، لأن البغدادي مسكون "بدمشق"، وثاني المعلمين إصرار "البغدادي" أن يكون الإنسان الشعبي في بساطته العميقة التي يمتلئ بها شعره، فإذا هي عوالم من واقع وخيال، تحذف من الشعر الحديث ما فيه من أوهام ومراوغة وافتعال، لنكون أمام الحقيقة عارية وجميلة، لا تعنيها حبال السحرة وألاعيبهم لأنها معجزة وكفى».