في قلب "دمشق القديمة" وإلى الجنوب منها يمتد الطريق من "باب الجابية" وإلى اليسار إلى "باب شرقي" الذي كان يطلق عليه في الماضي "الطريق المستقيم"، في منتصف الطريق وإلى اليسار زقاق ضيق يوصل إلى معلم عمراني عريق، يقوم فيه "مكتب عنبر"، تشير إلى المكتب لوحة رخامية على البوابة الرئيسية، مكتب إعدادية ملكية وفي أعلاها "الطغراء السلطانية".
موقع "eSyria" حاول الوقوف على أهمية هذا القصر وأهم الأحداث التاريخية التي رافقت وجوده، حيث يذكر المؤرخ "نعمان القساطي" في كتابه "الروضة الغناء في دمشق الفيحاء" المطبوع عام 1889: «إن دار "يوسف أفندي عنبر" موقعها في حي "المنكنة" وقد بدئ ببنائها عام 1867، وقد وضعت السلطة العثمانية يدها على الدار مقابل دين على صاحبها "عنبر" واكملت بناءها».
لقد كان مكتب "عنبر" من نبه الناس إلى مأساة فلسطين، وأول من علم الناس من هو "بلفور" ووعده
عن تاريخ هذا المكان ووفود الطلاب إليه يحدثنا الباحث "محمد مروان" قائلاً: «وُفد طلاب "دمشق" إلى المكتب من كل أحياء المدينة، وتلقوا فيه التعليم بداية حتى الصف التاسع، وما لبث أن امتد إلى الصف الحادي عشر، وعندما أطلق على المعهد اسم "سلطاني مكتبي" أي المدرسة السلطانية، وكان التعليم فيه باللغة التركية إذ كانت هيئة الإدارة والتدريس كلها من الأتراك، ناف عدد الطلاب يومها على الـ600 طالب، يحصلون فيه علوم القرآن الكريم، العلوم الدينية، الفقه، اللغة العربية، ترجمة اللغة التركية، اللغة الفارسية، علم الثروة "الاقتصاد"، علم الجغرافيا والفلك، تاريخ وجغرافية الدولة العثمانية، الحساب والجبر، الزراعة، الكيمياء والفيزياء والميكانيك، أصول مسك الفاتر، حسن الخط والرسم».
يتابع: «في عهد الحكومة العربية حين تحررت سورية من الحكم العثماني، وفي ظل حكومة الملك "فيصل العربية" عام 1919، كان "مكتب عنبر" في مقدمة المؤسسات التي تم تعريبها، فاختيرت له كوكبة من المربين العرب منهم "الشيخ عبد القادر المبارك، جودت الهاشمي، محمد البزم، كامل نصري، عبد الرحمن سلام، محمد الداودي، محمد علي الجزائري، رشيد بقدونس، شكري الشربجي، أبو الخير القواص، سليم الجندي، مسلم عناية، جميل صليبا، جودت الكيال، يحيى الشماع، عاصم البخاري"، وكان لهم الباع الطويل في محو الآثار التركية، وإذكاء الروح العربية، وبعث التراث العربي، وسمي المكتب آنذاك مدرسة "التجهيز" و"دار المعلمين"».
يحدثنا الباحث الأستاذ "محمد مروان" عن اول مدير عربي للمعهد قائلاً: «كان أول مدير عربي للمعهد بعد الحرب العالمية الأولى هو الضابط المتقاعد "شريف رمو"، ثم خلفه "مصطفى تمر"، فـ"جودت الهاشمي"، فـ"محمد علي الجزائري"، فـ"عبد الحميد الحراكي"، فـ"شكري الشربجي" وتم في عام 1935 تأهيل مجموعة من المعلمين المؤقتين وتدريسهم أصول التربية والتعليم وعلم النفس فأحدث في المكتب صف سمي صف "التعليم العالي" عُين له الدكتور "خالد شاتيلا" مديراً، وتم في العام نفسه إنجاز مبنى مدرسة التجهيز "ثانوية جودت الهاشمي- اليوم" فنقل إليه طلاب "مكتب عنبر"، الذي تحول بعد ذلك إلى مقر لقصر الثقافة العربية، تقام فيه الندوات الثقافية والمعارض الفنية».
عن الأحداث التي رافقت وجود المكتبة والطلاب فيها يقول الأستاذ "قتيبة الشهابي": «عندما وقعت معركة "ميسلون" كان طلاب مكتب "عنبر" في عطلتهم الصيفية، وعندما انصرفت العطلة واستؤنفت الدراسة كانت فاجعة "ميسلون" وانهيار الدولة الفتية واحتلال البلاد من المستعمر الفرنسي، ونكوص الحلفاء عن وعودهم باستقلال البلاد العربية التي قطعوها لشريف مكة، فلم يكن من حديث بين الطلاب إلا الفاجعة وآثارها وسبيل الخلاص منها، ولم يبدأ ذلك همساً كما كان متوقعاً، وإنما بدأ بأصوات مجلجلة عالية بين الطلاب أنفسهم، وبين الطلاب وبعض أساتذتهم، لا بل دفعت الحماسة بعض الأساتذة إلى أكثر من الحديث، فقد تهيب الفرنسيون "مكتب عنبر" ولم يدخلوا إليه أستاذاً فرنسياً إلا عام 1924 وتلك ظاهرة تستحق التسجيل، لأن "فرنسا" قد جاءت بمستشاريها إلى دوائر الدولة ووزاراتها منذ اليوم الأول للاحتلال».
ويروي الباحث "مطيع المرابط": «إن المرارة المكبوتة لغياب الجيش الوطني عن البلاد بعد معركة "ميسلون"، ولاحتلال البلاد من عدو غادر غاصب، دفعت "شلة" من طلاب "مكتب عنبر" لتأليف فرقة كشفية لم تكترث بقرار المفوص السامي بإلغائها بل اتصلت بالشاعر "سليم الزركلي" الذي نظم نشيداً لميسلون لحنه "فائز الأسطواني"».
وكتب الباحث المحقق "ظافر القاسمي" في مؤلفه القيّم "مكتب عنبر" عام 1925: «مرّ "بلفور" بدمشق، إنه صاحب الوعد المشؤوم بإهداء "فلسطين" إلى اليهود، يوم كان وزيراً لخارجية "بريطانيا"، كنت يومئذ في مدرسة التطبيقات الملحقة بمكتب "عنبر" وقد باكرت المدرسة منذ الصباح، فوجدت بعض الرفاق قد سبقني إليها وتجمعوا يحدث كبيرهم صغيرهم، وعالمهم جاهلهم عن "بلفور" ووعده، وما زلت أذكر أن طلاب مكتب "عنبر" قد اقتحمو مدرسة التطبيقات وعطلوا فيها الدروس وضمونا إليهم، وأخذ واحد منهم يحدثنا عن شرور هذه الجريمة النكراء، ويندد بآثام القوة ويدعو للإضراب والتظاهر، فخرجت المظاهرة وانضم إليها الناس سريعاً وكأنهم كانوا يترقبونها، وانقسمت المظاهرة إلى قسمين قصد أحدهما "الجامع الأموي"، وأكره سدنته على إغلاق أبوابه جميعاً لأنه قد شاع أن "بلفور" سيزور الجامع فأراد الطلاب من ذلك الحيلولة دون أن يدنس هذا المكان المقدس بزيارته وألغيت الزيارة فعلاً.
وأما ثانيهما فقد انطلق في الشوارع والأسواق وكنت بين رفاقي الطلاب، فأسفت بجهل العامة سبب التظاهر، كانت نداءات الطلاب وهتافاتهم تشق عنان السماء، تردد "فلسطين" عربية فليسقط وعد "بلفور"، وكان العامة يرددون هذه الهتافات على النحو الذي استطاعوا ترديده، إن هؤلاء العامة وثقوا بأبنائهم طلاب مكتب "عنبر"، لأنهم لا يتظاهرون إلا لأمر وطني يعود على البلد كله بالخير ولأنهم لا يحتجون إلا على ظلم نازل بالناس فلا جناح عليهم أن يرددوا ما يبدو لهم صواباً أو خطأ، ويكفي أنهم قد أغلقوا متاجرهم ودكاكينهم وخرجوا من بيوتهم ليشاركوا في هذا التظاهر الوطني، ذلك فضلٌ لمكتب "عنبر" على الحركات الوطنية في البلاد».
ويحدثنا السيد "محي الدين الشريف" أحد المعمرين بدمشق القديمة: «لقد كان مكتب "عنبر" من نبه الناس إلى مأساة فلسطين، وأول من علم الناس من هو "بلفور" ووعده».