رسالة الفن كانت ومازالت على مر الأزمنة أهم موروث حضاري يروي قصة الماضي ويصنع حضارة اليوم، والمتحف الوطني بـ"دمشق" يحتضن فنوناً نحتية وزخرفية وفسيفسائية تمثل معالم سورية وتحولاتها الرائعة على مر حوالي المليون ومئتي ألف عام.
فريق "دمشق القديمة" في "eSyria" بتاريخ 27/4/2009 قام بجولة عبقة برائحة العراقة السورية في أقسام المتحف الوطني بـ"دمشق"، وللتعرف أكثر على ممتلكات المتحف وأقسامه التقينا بالدكتورة "هبة السخل" محافظ متحف "دمشق" الوطني، وأمين قسم عصور ما قبل التاريخ، التي حدثتنا عن بداية تشييد المتحف: «تم بناء هذا المتحف بشكله النهائي كما هو اليوم عام 1950 على أساس اكتشافات أثرية ثلاثة، الأول مبنى "كنيس دورا أوروبوس" في موقع صالحية الفرات وهو يعود إلى العام الثاني من حكم "فيليب العربي" (244- 249م)، والثاني اكتشاف مدفن "يرحاي التدمري" الذي يعود إلى عام 108م، أما الثالث فهو اكتشاف مبنى "قصر الحير الغربي" في بادية الشام جنوب غرب تدمر، وقد نقلت هذه المكتشفات الثلاثة إلى هنا لتشكل أهم ممتلكات المتحف بالإضافة للعدد الهائل من الآثار المنتشرة في كل الأراضي السورية».
أرى الكثير من السياح وهم خارجون من هنا يقولون بدهشة (ما الذي صنعناه حتى الآن، كل هذه الحضارات لم تترك لنا ما نكتشفه)
أثناء تنقلنا بين أقسام المتحف بدءاً من حديقتها التي تعد من أروع متاحف الهواء الطلق باحتوائها آلاف القطع الأثرية بأعمار مختلفة، حدثتنا الدكتورة "هبة" عن تقسيم المتحف إلى خمسة أقسام حسب الزمن الذي تعود إليه كل قطعة أثرية: «القسم الأول هو عصور ما قبل التاريخ ويضم فترتين بالغتي الأهمية هما فترة "البالوليت" (فترة العصر الحجري القديم) وفترة "النيوليت"، بدءاً من فترة البالوليت الأدنى التي تكمن أهميتها بأنها فترة بداية وجود الإنسان في سورية وتعود إلى مليون ومئتي ألف عام، وعثرنا على مواقع مؤرخة لهذه الأعوام تحوي فؤوساً يدوية وغيرها من الأدوات كموقع "بالميرا"، و"ست مرخو"، و"اللطامنة" التي وجدنا فيها أقدم عظام وأول طبقة سكن توجد خارج أفريقية».
تتابع الدكتورة "هبة": «من ثم تأتي فترة "البالوليت الأوسط" وتضم آثار هذه الفترة معالم وجود أقدم إنسان عاقل في العالم، وفترة انتقالية تشمل حضارات لم يشهد العالم حضارة مماثلة لها كما منحتنا هذه الفترة معلومات مهمة جداً منها الجمل العملاق وعظامه أكبر بمرتين من عظام الجمل الحالي والذي أيضاً لم يعثر على مماثل له خارج سورية، واستخدام مادة الزفت حيث شهدت المنطقة أقدم استخدام لمادة القار "الزفت" في العالم، فكان سكان المنطقة يستخدمونه كمادة لاصقة بين الأدوات الخشبية أو الصوانية، بالإضافة لدليل الصيد حيث عثرنا على عظمة فقرة حمار وحشي تحوي قطعة صوان وأكدت كل الدراسات بأن هذه القطعة مرمية من بعد حوالي الأربعين متراً من الأعلى وهذا دليل بأنه تم صيد هذا الحمار بواسطة رمح وهو أقدم دليل صيد في العالم».
تتنقل الدكتورة "هبة" بحديثها بين الفترات التي يشملها قسم عصور ما قبل التاريخ في المتحف الوطني وما شكّلته من مقومات حضارية أعطت صبغة مميزة لسورية: «من ثم تأتي فترة "البالوليت الأعلى" وهي فترة بسيطة في سورية وما تزال معالمها قيد الدراسة، لنصل إلى مرحلة انتقالية بين البالوليت والنيوليت واسمها الميزوليت (العصر الحجري الوسيط) وتميزت هذه الفترة بوجود المساكن والبيوت الدائرية الشكل المؤلفة من كتل حجرية، وننتقل إلى فترة النيوليت (فترة العصر الحجري القديم) وتعد ثورة عالمية حيث شهدت بداية الزراعة وتدجين الحيوانات الأليفة وقد أثبتت الدراسات بأن سورية أول منطقة عرفت زراعة القمح والشعير وما كان من توابع للزراعة كبدايات الاستقرار، وتشكيل المدن، والقرى الكبيرة لتأتي في النهاية فترة البرونز والمدن القديمة».
وتذهب بنا الدكتورة "هبة" إلى عصور ذهبية شهدتها سورية من خلال سردها التاريخي وكأنها عاشت هناك يوماً لعمق معرفتها وعشقها لعراقة المتحف، وعن باقي الأقسام تتابع: «القسم الثاني هو لفترة الشرق القديم تمثلها الممالك القديمة وبداية اكتشاف الكتابة فأبجدية أوغاريت الغنية عن التعريف موجودة هنا لدينا في هذا المتحف بالإضافة إلى أرشيف كامل عن المعلومات المكتشفة في موقع "ماري" و"إيبلا"، والقسم الثالث لفترة الآثار الكلاسيكية التي شهدت بداية الموزاييك واللوحات الفسيفسائية الرائعة المعاصرة للفترة الرومانية ذات الطابع الشرقي في دولة "تدمر" وهي تشكل اليوم في المتحف "القاعة التدمرية"، وأهم ما يميز هذا المتحف هو الكنيس "دورا أوروبس" والرسومات المميزة المعبرة عن القصص التاريخية لتلك الفترة التي لم نسمع عنها إلا في الكتب السماوية وهي مرسومة بأشكال صورية رائعة».
تتابع "السخل": «وتأتي فترة العصور الإسلامية وأهم ما لدينا من هذه الفترة قصر "الحير الغربي" المشكل بوابة المتحف، كما تتميز الفترة الكلاسيكية بتنوع رائع في الصناعات الخزفية وزخرفة الخشب والزجاج بأنواعه بالإضافة لتطور العملة بحسب تطور الدول التي تأسست وحكمت المنطقة، أما القاعة الشامية المميزة بطرازها الإسلامي الرائع فهي منقولة من منزل دمشقي قديم وتستخدم الآن قاعة محاضرات ومؤتمرات، أما القسم الأخير فهو قسم الفن الحديث الذي يضم أعمال فنانين سوريين من حوالي العام 1800م، وهذه الأعمال تشكل بدايات الفن في سورية ممثلة بعشرة آلاف لوحة من فترات مختلفة».
وعن أهمية المتحف كمؤسسة ثقافية ووطنية تحدثنا الدكتورة "هبة": «يعد المتحف الوطني بدمشق من أهم المتاحف عالمياً، لأنه يشمل اتساعاً حضارياً هائلاً وكل هذه الآثار بمختلف عصورها والحضارات التي عايشتها موجودة في بلدها الأصلي سورية وتضم قطعاً تعود إلى مليون ومئتي ألف عام، فيختصر هذا المتحف الحديث عن كل الحضارات الهائلة التي شهدتها المنطقة، وعند زيارة أحد السياح لـ"دمشق" ومشاهدته لكل هذا الكم من الآثار في المتحف يأخذ فكرة موثقة عن عراقة "دمشق"».
وتتابع "السخل" مشيرة بيدها إلى نافذة مكتبها المطلة على باب المتحف: «أرى الكثير من السياح وهم خارجون من هنا يقولون بدهشة (ما الذي صنعناه حتى الآن، كل هذه الحضارات لم تترك لنا ما نكتشفه)».
وتنهي الدكتورة "هبة السخل" محافظ متحف دمشق الوطني لقاءها معنا بكلمات نابعة من حبها وإحساسها بالمسؤولية الكبيرة تجاه الوطن: «هذا المتحف هو الشاهد والناطق الرسمي باسم كل الحضارات السابقة، بالإضافة إلى كونه مؤسسة ثقافية وتربوية تعلم أولادنا الهوية الحضارية لسورية، وأتمنى أن يكون متحفنا متطوراً بمستوى غناه فهو أغنى متاحف العالم بمخزونه لكن أساليب العرض فيه قديمة رغم أنه يستحق أن يكون من أحدث المتاحف تقنياً».