أخيراً وفي آخر نقطة من محافظة "درعا"، وبالقرب من الحدود الأردنية وعلى أطراف سهل واسع تتمايل فيه سنابل القمح الذهبية، وجدنا مشغلا ومحلا واستراحة للنحات "إبراهيم فوزي أبازيد".
إنه ينحت على قارعة الطريق العام والناس يتابعونه بفضول، بعضهم وصفه بالمجنون، "أبازيد" لم ينتمِ إلى أية مدرسة فنية، وما زال مغمورا يذوق المرارة بانتظار الفرصة التي تسلط الضوء على نتاجاته الفنية السابقة والمقبلة، عندما ينتهي من إصلاح جرار زراعي في ورشته يتحول مباشرة من ميكانيكي إلى نحات، فالجرار الزراعي داخل المحل والصخرة أمامه ولا يحتاج إلا إلى تغيير أدوات العمل.
تحتاج هذه الصخرة إلى (20) أو( 30) مليون ضربة إزميل ومطرقة
منذ الطفولة وبدافع ذاتي وغامض ارتبط بفن النحت، هذا الارتباط أقلق والده خوفاً على مستقبله ومعيشته، والوالدة تتذكر كيف أن "إبراهيم" مارس دور الفأر الذي يسرق الصابون لإشباع رغبته في النحت.
لم يدرس فنون النحت ولا التاريخ ومؤهله العلمي هو السادس الابتدائي، تعلم أسرار النحت بالغريزة، ولد وبيده إزميل النحت، ففي الرابعة من عمره سرق صابونة ليخلق منها مجسمات، وانتقل لاحقا للنحت على الصخور الكلسية، هذا النحات بالفطرة تحول فيما بعد إلى النحت على صخور البازلت المنتشرة في "حوران"، فشكل من صخرة بوزن /6/ أطنان- نقلها من بلدة "صيدا" في محافظة "درعا" إلى مكان إقامته- منحوتة حملت اسم "قصة الخلق"، قدم من خلالها قصة الخليقة مستعيناً بالتراث الإنساني وبالخيال أحيانا لإكمال لوحته، أرخ عليها الخليقة منذ سيدنا "آدم" عليه السلام، والكعبة المشرفة، وسفينة "نوح"، وهي تحمل مجموعة من الصناديق والأشخاص، وقوم "ثمود" وأخوهم "صالح" ومدائنه، و"البتراء"، وأهرامات "الجيزة"، ومسجد قبة الصخرة، ومقام "زكريا"، ومحراب السيدة "مريم العذراء"، وتابوت "طالوت"، وكرسي "سليمان"، ومسرح "بصرى"، والقرآن الكريم مفتوح على سورة إقرأ، وساعة التوقيت، والنبي "يعقوب" وأولاده.
بدأ النحات "إبراهيم فوزي أبازيد" حديثه بالقول: «بدأت هواية النحت بعمر أربع سنوات، كنت أنحت الصابون وتشكيل الطين ثم انتقلت إلى استخدام الحجر الكلسي وفي الصف السادس بدأت الحفر على الحجر البازلتي».
وتابع قائلاً: «تأتي فكرة العمل النحتي لدي من خلال ما استلهمه من قصص القرآن الكريم، وقصص الأنبياء، والتاريخ العربي والإسلامي والعالمي، وأحياناً تأتيني أفكار لأعمال نحتية أثناء العمل في الكتلة الصخرية ذاتها، وأعيش الفكرة وأنفذها فوراً، ولكن قد أبدل أو أضيف عليها أفكاراً جديدة».
وقال "أبازيد": «أنجزت من طفولتي إلى اليوم/7/6/2010/ حوالي (450) عملاً نحتياً وجميعها موجودة في منزلي ومنزل أهلي، وهنا في مقر عملي (ورشة إصلاح الآلات الزراعية)، منها (12) منحوتة بازلتية مشكلة من كتل صخرية متنوعة الأحجام والأوزان من وزن (100) كغ إلى وزن (117) طناً، ولدي أيضاً أصغر منحوتة في العالم بحجم حبة العدس وهي بوزن (0.15) من الغرام وهي عبارة عن مجسم لرجل يحمل كتاباً، استخدمت لنحتها حجر "الغريتيان" وهو حجر قريب من حجر الصوان».
ويعمل النحات "أبازيد" حالياً 7/6/2010 على صخرة ثانية وهي بوزن (117) طناً ويبلغ طولها (7) أمتار وعرضها 2 متر وارتفاعها (3) أمتار عملاً جديداً (أنجز 50% منه) سماها "صخرة حب وسلام للعالم" استمد فكرتها من تراث الشعوب بدأ بالعمل بها في العام/ 2006/ ويتوقع أن ينهيها خلال السنوات القادمة حيث قال: « تحتاج هذه الصخرة إلى (20) أو( 30) مليون ضربة إزميل ومطرقة».
وقال "أبازيد" عن منحوتته الجديدة: «سأحكي من خلالها قصة الحضارة الإنسانية في مختلف مراحلها، وستحمل في نقوشها رموزاً لحضارات وتراث الشعوب من آسيا إلى أوروبا إلى أمريكا اللاتينية».
وتابع قائلاً: «أهم الموضوعات في هذه اللوحة شجرة تمثل "آدم عليه السلام" وقد تفرعت منها أغصاناً، وكل غصن يحمل "أيقونةً" تمثل أهم معالم الحضارات القديمة، فغصن يحمل "مسلة فرعونية" وآخر يحمل "السفينة الفينيقية" وثالث يحمل "معبداً هندياً" وستحمل هذه المنحوتة، مجسمات لبعض المعالم من حضارات المايا والأزتيك والأنكا».
وقال النحات "أبازيد": «أما عن أسباب اختياري وعشقي للنحت على الصخر البازلتي، فيأتي ذلك لصلابة وديمومة وقوة البازلت، ولتوافره في "حوران"، ولكنني استخدم أحياناً الرخام والأحجار الكلسية».
أما عن الحركة النحتية في "درعا" فقال: «إنها ضعيفة جداً ولا يتجاوز عدد النحاتين أصابع اليد الواحدة »، ولكنه استدرك قائلاً: « شاركت خلال العام الماضي/2009/ في الملتقى النحتي الأول الذي عكس مبادرة رائعة جمعت فناني "درعا" وساهمت في تأريخ أعمالنا النحتية سعياً للنهوض بالحركة الفنية التشكيلية في المحافظة وتعزيز الجانب الإبداعي لدى النحاتين».
وقال: «ليست لي أية أعمال نحتية في ساحات "درعا"، على الرغم من أن أعمالي تشكل متحفا في الهواء الطلق، يحضر لرؤيتها وفوداً سياحية كثيرة من الدول العربية والأوروبية ومن جميع المحافظات السورية».
وقال "أبازيد": «أكسب عيشي من مهنتي في إصلاح الجرارات الزراعية، بينما النحت هوايتي المحببة أمارسها بعشق لساعات طويلة، وكثيراً ما أترك عملي لأنفذ فكرة ما خطرت لي فأترجمها على الصخر، ولاسيما أن صخرتي توجد أمام ورشة عملي.
في نهاية اللقاء أطلعني النحات "إبراهيم أبازيد" على السجل الذهبي لكبار زوار مشغله المتواضع، ولفت انتباهي كلمات بخط يد الأديب والشاعر "شوقي بغدادي" يقول فيها: «اليوم آمنت أكثر من أي وقت مضى أن الإبداع الفني مرجعه الأساسي الفطرة».