حيث رسم الغساسنة بعضاً من تاريخ "حوران"، وعلى مشارف قريته "اليادودة"، وحينما تحلق فوق نهر اليرموك ترى أمامك منطقة "حوران"، أم اليتامى ومهوى الشعراء، يطل عليك من كنف هذه الطبيعة الخلابة ومن بين الأوابد الأثرية الهامة، الشاعر "منصور الزعبي" الذي ما زال في كل يوم يولد من جديد، يبحث عن حروف جديدة وأحاسيس شامخة تسقط سمات هذا العصر.
تعب من السفر، لا يريد الرحيل، يحب الغوص، ولا يريد الغرق، فالشعر بالنسبة له هو استراحته من هموم الزمان، متفرغ.. متطوع لخدمة مجتمع يحرص على نقائه، يسابق فوق سحاب الشعر، يبحث عن بساط ريح شعري واعد، ليبقى يزجي لحوران القصائد راقصات.
موقع eDaraa في 1/5/2009 زار الشاعر "منصور الزعبي" في منزله وكان هذا الحوار والحديث عن تجربته الشعرية، فكانت هذه الكلمات التي خرجت من قلب شاعر عاش من أجل رسالة؛ وقصيدة شعرية تحمل القارئ إلى ميادين الشعر.
** عندما أمسك قلمي أشعر أن الكلمات ضمات من الورد تتضوع مسكاً وعنبراً، أجدها نهراً من الريحان وغابة من البنفسج مغطاة بالحرير والقصب، بستاناً مزداناً بأزهى ألوان الطيف، وحقلاً في اللوتس وشقائق النعمان، أما سر تعلقي به فهو يطلق الروح من إسارها لتسبح مع القمر، تتنشف بالشمس تنام في فراش الغيوم، تحرق البخور على مذبح الحياة تئن، تشهق، تحتضر، كالهمسات فتصهرني كالذهب، وتشكلني من جديد أغنية خضراء على شفاه الزمن.
** هل تعتقد يا صديقي بأن بدوياً صحراوي الطباع كعنترة لا يشعل ناره في أزقة الحياة المتسكعة، أو أن سفينة تائهة لا تبحث عن منارة مشرقة تستهدي بها، ألا تشاهد زحف الصحاري على الواحات، فكيف سيستسلم الشاعر المحارب لاستراحة من عناء أضناه، الشعر هو استراحتي، وهو معاركي لأن الشعر يحكيني قصائد غنّاء ورؤى واعدة وأحلام طفولة راجفة، فأنا حصان جموح يصهل بالشعر باحثاً عن "امرئ القيس"، و"طرفة بن العبد" و"سيف الدولة الحمداني"، و"أبي الطيب المتنبي"، و"نزار قباني"، ولو أردت أن تقرأ هذا الصهيل لاحتجت إلى أن تفتح قاموسي الشعري:
أبداً أقطع الحياة ونجمي / في نحوس وهمتي في صعود
ولكنني في الوقت نفسه يتملكني نشيج "أبي فراس الحمداني" الذي أطلقه وهو في "حصن خرشنة":
سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم/ وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
وها هو حصان الشعر قد تعب من السفر وألقى حقائبه في الثانية والسبعين وهو يردد:
تعبت من السفر الطوال حقائبي/ وتعبت من خيلي ومن صهواتي
أنا محارب ما زلت أرتدي لامتي ودرعي وأتقلد سيفي
** في سوق عكاظ الشعر الحوراني، تستمع إلى شعراء فحول، تحسدهم على فخامة الشعر، وتتحسس همسات الشعر عند آخرين، وتحار بين المدرسة التمامية والمدرسة الأوسية والمدرسة القبانية، ولكنك تكره الشعر عندما تسمع أصواتاً نشازاً تقلد الساقط من الشعر، وأنت تعرف مدرسة الحطيئة حين يقول:
الشعر صعب وطويل سلمه/ إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه.
أنا أرسم بالشعر معاناتي، وأحاول أن أقطف النجوم أزهاراً لقارئي العزيز، فالشعر ليس قافية ووزناً، الشعر ثقافة وإحساس، وهناك على سبيل المثال "شاعر إحساس"، و"شعر لغة قاموسية"، والشاعر لا يأتي من قرص الشمس، أو من سلالة الملوك لأن للشعر مملكته الخاصة، الشاعر يتكون من حزن الناس من دمع الناس ومن ليل الإحساس:
أعاذلتي فإن الشعر أســــمى/ وليس الشعر في رصف الكلام
حروف الأبجدية ما استقامت/ لغير الصيد والصـحب الكرام
وتأكد بأنني لا أكتب الشعر ولكن الشعر هو الذي يكتبني.
** شاركت في العديد من الأمسيات، وكنت غير راض عن مشاركاتي كلها، ذلك لأن المؤشر الشعري لدي كان يشير إلى تذبذب التذوق عند الجمهور، الذي أفسده تناص الشعر العربي مع الشعر الغربي في "حوران"، مع العلم أن هناك شعراء كباراً، والمعذرة في عدم إساءة فهمي، لأنه ما ينطبق علينا ينطبق على متذوقي الشعر على مساحة خارطته القطرية والعربية والعالمية، أما الأغلى من قصائدي فتأكد أنها كالأبناء لا رخيص بينهن، ولكنها تبقى للقصائد خصوصيات المعاناة، هناك قصيدة عنوانها "متحجبة"، نظمتها في زمن لا يزيد عن النصف ساعة، ولا أعرف كيف تمدمد هذا الإحساس معي، يقول مطلعها هذه القصيدة على الرغم من طولها:
صادفتها عند الصباح فأبرقت/ وتهللت، فتضاحكت ألوانا
وازداد وجه في الحجاب تألقا/ افتن ذو شغف بها هيمانا
وتحجب الوجه الذي أكبرته/ خلف العيون فأورقت أغصانا
كانت ملامحها ترشرش عطرها/ واليوم غابت في الحجاب رزانا
يا وردة ضحك الجمال بوجهها/ وبثغرها قمرية وجمانا
فتمادحت وتراقصت وتعانقت/ كل القوافي وارتقت إيمانا
ألحان حبك في ضفاف قصائدي/ تشدو وتنشد لحنها أفنانا
** لا شك أن الاستعمار الفرنسي كان بغيضاً من كل أفراد الشعب العربي السوري، ولذلك سعى كل فرد بهذا القطر الحبيب لطرد هذا المستعمر، وهب النشامى في كل أرجاء سورية حاملين السلاح ضد الأعداء، وكانت الثورة في الساحل السوري، وفي "دمشق" وفي المنطقة الوسطى وفي جنوبنا الحبيب، وقد كنت آنذاك طالباً في مدرسة "الراهبات" فاعتقلني الجنرال "غورو"، ولكن العزوة الحورانية أبت إلا أن تنقذني في معركة "المذخر"، حيث طردت الحامية الفرنسية إلى "دمشق"، وما يزال كرسي المستشار الفرنسي لدي غنيمة أخذناها، وما زلت أحتفظ به إلى يومنا هذا.
** نحن في المدرسة الحورانية للشعر نتسامق فوق سحاب الشعر، ونسبح فوق النجوم مع "أبي تمام" و"المتنبي"، باحثين عن بساط ريح شعري واعد، أقول هذا وأدرك أن للشعر هذا الفن المدلل عشاقه ومحبوه، وإذا كان الشاعر يغرق في حالة صوفية من الوجد والضنى، ويحلق بعيداً في حالة من الغناء في أتون الصياغة الشعرية، فإنه يغوص في ديمة من العطور الشعرية على جدائل بدوية، تبحث عن أرجوحة من الحرير تمتد بين السماء والأرض، كما مدت العتابا على ذرى تلالنا مدات راعفات لكل مدة غصة، ولكل غصة حرقةً يشوى بلهيبها الشعراء، منه تبدأ وإليه تعود، ولكي تبقى "حوران" مصدر ألهامنا في سهلها وجبلها حرة أبية سنبقى نزجي إليها القصائد راقصات.
بقي أن نشير لأن الشاعر "منصور الزعبي" حين بلغ الثامنة اعتقله المستشار الفرنسي في مدرسة الراهبات في "درعا" عام (1946)، وبعد ذلك بأربعة أيام تحقق الجلاء، فركب قطار الرحيل إلى المدرسة الانكليزية في "برمانا في لبنان"، وبعد اجتيازه للمرحلة الثانوية في الجامعة الأمريكية في "بيروت"، سافر إلى ألمانيا ليدرس الزراعة في جامعة "البودن كلتور"، أصدر ثلاث مجموعات شعرية والرابعة قيد الطباعة وهي:
" أزهار الغضب"- "بكاء النوافير" – "ترحل الجراح" - "بندر".