النقد رؤية واعدة تسبر أعماق النص الإبداعي، وتطير به في آفاق الكون باحثة عن موقع ٍ راسخ لذلك النص، والنقاد على الرغم من كونهم السابر لمسودات الأدباء، فإنهم يبقون المصابيح المقـمرة فـي ليـل النصوص الأدبية، فكم من مبدع ٍ لولا النقد لبقيت كتاباته في غياهب سجون الصمت.
الناقد والشاعر "حسين الهنداوي" في حوار مع موقع eDaraa في 1/5 /2009 يفتح آفاقه علـى فضاءات جديـدة للـقراءات النقديـة للنصوص الواعدة فكان لنا معه وقفة وأجاب على أسئلتنا بكل موضوعية:
*بين الأدباء والنقاد صراعات عميقة لا يمكن أن تندمل جراحها فما موقف النقد من الأدب؟
** النقد بمفهومه الدقيق والصحيح هو كشف وتحليل للأبعاد الإنسانية التي يحياها الفرد، والمجتـمع نفساً واقعة من خلال النصوص المقروءة، ولا يمكن لأي نص مهما علت مكانته أن يخـتم بجــواز مرور النقد، فالنقد هو الذي يفـتق روائع النص، ويفتح له الأشرعة ليطير إلى عالم كوني يرتسم من خلاله أبعاداً إنسانية ضمن آفاق فنية، وإذا كان هناك من الأدباء من يفترض حساسـية بين النقـد والأدب فذلك إنما يكون بسبب هشاشة تكمن في النص الأدبـي "أي عند صاحبه"، هـذا إذا كان الأدب المطروح أدباً حقيقياً يمتلك عناصر البقاء الفنية والإنسانية، والنقد بعدٌ إنساني وبعـد فني توحـدا فشكلا لنا لوحة فنية جديدة، إن التكاملية بين الأديـب والناقـد إذا كانا مـتوازيين في البحث عن الحقيقة النقدية، والحقيقة الأدبية هي التي تجعل العلاقة جدلية بين الفنين.
*النص الأدبي أفق واسع يحمل أبعاداً إنسانية وفنية، ما شروط خلود النص الأدبي؟ وكــيف للأديب أن يوقع بقلمه في سجـل الـخـالديــن؟
** لا يمكن لأي نص أدبي أن يرتسم بمعالم الخلود، والبقاء على مر الزمان إلا إذا كان يلامس جذور الواقع الحقيقي للمعطيات الإنسانية المتكررة على مر العصور، فالإنسان كما يقول "اليوت" ليس ولادة وزواجاً وموتاً، إنه لوحة ترسم آفاقها على واقع الحياة، والنص الأدبي الحقيقي بدوره ينمنم هـذه الصورة ويخرجها إلى الوجود صعقة إنسانية، وأي صاحب نص إذا أراد لنصه البقاء والخلود فعليه أن يرصد القضايا الكونية والنفسية الممتدة في أعماق الإنسان، والتي تقض مضجعه لأنها الآفــاق الحقيقية للبعد الوجودي للإنسان، والأديب الذي لا يمتلك أدواتاً حقيقية فاعلة في الأدب لا يستطيع أن ينتج نصاً أدبياً حقيقياً، ناهيك عن تفاعل هذا الأديب مع الذات والآخر واكتشاف الأبعاد الحقيقية للأعمـاق الإنسـانية فالأدب بلا أدوات، كالصياد الذي يطرد صيده بيديه، فقد يعود خائباً من رحلته غير ممسك بريشة عصفور.
** الشعر في الحقيقة بعد إنساني حمل النفس الإنسانية مبدعة ومتلقية إلى آفاق الخيال، عندمـا كانت الذاكرة هي الرصيد المتبقي للإنسان في حمل تفاعلات الزمـان، ورسـمها عـلى خريطـة الموقـع الإنسـانـي، ولكن مواقع الأدب في هذا الزمان الذي فتـح نوافـذ عـدة على الحياة، جعـل الرواية والقصة القصيرة والمقالة والمسرح تزاحم الشعر على مكانته، وتحاول إقصاءه عن الريادة وتجد سبلاً جديدة إلى النفوس الإنسانية، التي بدأت تستجيب بسبب طبيعة الحيـاة إلى تزاحـمات الصراعات الإنسانية، التي قد تجعل الرواية الفن الأكثر اختلاساً لخبايا النفوس، لما تحمله الرواية مـن توهجات إنسانية تسبر مغاور النفس، وتستخرج خبايا ما يختبئ من تفكير في لا وعي وشعور الإنسان.
** للشعر العربي على خريطة الألفي عام السابقتين، نظرية أسس لها الكثير من الشعراء، وأســهم في برمجة صياغتها النقاد العرب، وكانت نظرية الشعر العربي ابتداءً من "ابن سلام" وانتهـاءً "بالآمدي" ومروراً بـ"ابن طبا طبا"، وهؤلاء استطاعوا أن يؤسسوا نظرية شعرية عربية تجعل النص الـشـعري بعداً "إنسانياً – فنياً" يستطيع الثبات لمدة طويلة، ولكن اختلاطـات الترجمـات الحديـثـة، وما استورده المتنورون ممن خرجوا إلى البلاد الأوروبية من نظريات حديثة، أفرزتها طبيعة تفكير اجتماعي نتج عن واقع يختلف مع الواقع العربي في بعض جوانبه، ويلامسه في البعض الآخر حولت الـشعر من نظرية ثابتة إلى تجارب جديدة يحاول منها المتمرسون والمبتدؤون بالسوية نفـسـها في إبداع نصوص تجريبية، قد تصمد وقد لا تصمد، والغالب أنها لن تصمد على مر العصور، فهي زوبعـة في فنجان لن تشكل إلا آثاراً بسيطة، والأهم من ذلك ألا ينفصل الشعراء المعاصـرون الباحثـون عن الجدة، وذلك حقهم عن واقع الشعر العربي فلا يستطيعون الرجوع إلى النظرية الشعريــة العربيـة، أو التقدم في وهم نظرية جديدة تحت عناوين غير فاعلة وغير واقعية ظاهرها براق وباطنها يبحث عن فصل اللغة الفصيحة عن الأدب، وبالتالي إقصاء العلاقات البلاغية والثقافية عن لغة العرب التي فهموا من خلالها لغة القرآن الكريم.
** أما فيما يتعلق بنظرية النقد الأدبي في العصر الحديث، فالساحة ما تزال فارغة، وما يكتب لا يتعدى أن يكون إرهاصات ليل لحالم يجذف بيده عباب الماء، فالنقد نظرية لن يتم له ذلك إلا إذا وجـد أدبــاً راسخا ً يمثل واقع الأمة بشفافية وصدق، ويرسم آفاقها بدقة متناهية، ولا يمكن لأمة اختلطت لديها مقاييس المراوحة مع مقاييس التطور، ومقاييس التقـدم مع مقاييس التأخر وإبعــاد صـناعـة حياة حقيقية تكتب بتاريخ حقيقي، أن تتحدث عن نقدها دون أن تتحدث عن أدب يرســم صورتهـا الحقيقية على واقع الحياة، والكثير مما نقرؤه من نقد نظري هو ترجمات لآفاق نقد أجنبي اختلسـه المترجمون، ونسبوا الكثير منه إلى أنفسهم وادعوا أن حياتنا الحديثة تتناسب مع واقع هذا النقـد، والحقيقة هي غير ذلك فهم يعرفون ويهرفون حاملين إلينا ما تنتجه الثقافات الأخرى، وهذا ليـس عيباً ولكن حبذا لو كان المنقول مهذباً بما يتناسب مع واقعنا ومنسوباً إلى أصحابه.
** إذا كان بالإمكان في هذا الزمن المتشابك العلاقات، وبمقدورنا ذلك أن نتحدث عن نقد روائي ونقد شعري ونقد مسرحي، فإننا لا نستطيع أن نعمم فالمنهج والرؤيا والمصطلح في نقدنا الشعري كما قلت تبلور وشكل نظرية انقطع الحبل بها في أيامنا، ومضى الذين تـبنوا التـطور بلغة الخطـاب الشعري إلى مصطلحات جديدة، ومنهج جديد ورؤيا جديدة مقتبسة من الثقافات الأخرى، والشعر فن مشاكس لا يقبل بلغة العرب أن يخرج عن إطارهم أما في الرواية والمسرح والقصة والخاطــرة، فيمكن أن تتلاقح الرؤى النقدية الأجنبية مع الرؤى النقدية العربية الحديثة، ولكن ذلك يحتاج إلى كم هائل ورصيد كبير من النتاج الأدبي القصصي والروائي والمسـرحي حتى تبـزغ منه شمس نقد جديدة تطل على آفاق الواقع العربي.
** لا شك أن الواقع النقدي والأدبي يحتاج إلى إعادة فرز جديدة لاكتشاف الأدباء الفعالين من وجهة النظر الفنية، ومن وجهة النظر الرؤيوية، وإلى إعادة فرز جديدة لاكتشاف نصوص جديدة مبدعـة تكون منارات مضيئة في واقع الأمة، وهذه مهمة صعبة تحتاج إلى نقاد كبار معبئين بثقافة موسوعية يقرؤون الأدب والنقد، ويعيدون إنتاج نقد حقيقي غير محابٍ، ولا مجامـل يسهم في وضع النقـاط على الحروف.
الجدير بالذكر بأن الأديب "حسين الهنداوي" من مواليد مدينة "درعا" عام 1955 تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في مدينة "درعا"، انتقل إلى جامعة "دمشق" كلية الآداب (قسم اللغة العربية) وتخرج فيها عام 1983، حائز على إجازة في اللغة العربية، درّس اللغة العربية في معهد إعداد المدرسين في مدينة "درعا"، ويعمل حالياً مدرساً في جامعة "دمشق" فرع "درعا" قسم معلم صف.