حين يذكر اسم الفنان التشكيلي "عبد الجبار ناصيف" يجد المهتمون بالثقافة عموماً أنفسهم أمام تاريخ من التجريب والدأب الفني يمتد لما يقارب الأربعة عقود أمضاها هذا الفنان بين الريشة والألوان في ما يشبه العشق الصوفي، سيما وأن مفردات لوحاته كانت من البيئة الفراتية، التي أحبها وأخلص لها، كيف لا وهو القائل بأن الفرات بأناسه ومكوناته وطباعه غير قابل للمقايضة بأي مكان في هذا العالم.
"عبد الجبار ناصيف" الذي كان من أوائل الديريين الذين درسوا الفن التشكيلي أكاديمياً، رغم تأخره في الانخراط بالجامعة، كان على موعد مع eDair alzoor الذي حاوره في قضايا كثيرة تتعلق بتجربته ورؤيته الفنية وذكرياته دون نسيان التعريج على اللوحة الفراتية عموما.
رغم اعتزازي بهذه المنطقة إلا أن اللوحة الفراتية ما زالت مهملة ولم تجد مكانها أبداً في تاريخ الفن، هناك فنانون رائعون لكن المجتمع الديري لا يزال متأخراً في تعاطيه مع اللوحة قياساً إلى الفنون الأخرى كالشعر مثلاً، وهذا يعود إلى أسباب كثيرة تدخل فيها الثقافة وبعض القيم والتقاليد وغياب البيئة الاجتماعية المحفزة
-حسب معلوماتي أنت من مواليد "دير الزور" عام 1946، وخريج كلية الفنون الجميلة بدمشق عام 1981، بالنظر إلى هذه الأرقام، هل نقول بأنك كنت طالباً كسولاً في الجامعة كي تتخرج متأخراً؟
-يجيب ضاحكاً:
«لا.. لم أتأخر في الجامعة أبداً، ولكنني في البداية التحقت بدار المعلمين العامة وحصلت على أهلية التعليم الابتدائي (نظام الأربع سنوات)، ثم درّست سنتين في مدارس "ديرالزور" كمعلم مندوب لتدريس مادة الفنون، بعدها التحقت بالخدمة الإلزامية وبقيت فيها أربع سنوات، وما إن عدت إلى "دير الزور" حتى تقدمت إلى الثانوية العامة، فقد كان حلم الجامعة يروادني، وقد تحقق لي ذلك، ودخلت كلية الفنون الجميلة، وكانت مدة الدراسة وقتها خمس سنوات.
عندما تخرجت كان خريجو الفنون الجميلة في "ديرالزور" يعدون على أصابع اليد الواحدة، وهم الفنان "فواز بكدش"، والفنان "راسم الشيخ عطية"، والفنان "عبد الحي حطاب"، والفنان "صبحي الرحبي"، الذي غادر إلى فرنسا وأقام هناك.
أما الفنانان "خالد الفراتي" و"إسماعيل حسني" (والد المخرج هيثم حقي) فكانا قد تخرجا قبل ذلك بوقت طويل وغادرا إلى إيطاليا لإكمال دراستهما في بعثة خارجية على نفقة الحكومة.
لم أتوقف أبداً في الجامعة، على العكس كنت طالباً نشيطاً ومعروفاً، وهناك مواقف كثيرة تشهد بتميزي وبمحبة أساتذتي لي وتقديرهم لموهبتي».
«كان ذلك مصادفة، في المرحلة الابتدائية، وقد اكتشفني معلم الصف (فايز النوري)، وهو نفسه أصبح فيما بعد سياسياً معروفاً وعضواً في القيادة القطرية.
كان الأستاذ "فايز" فناناً موهوباً، ويمتلك تقنيات جيدة بمختلف المواد، كان يدهشني، وأنا طفل، إذ كنت أراقبه وهو يرسم في الحقول والبساتين القريبة من المدرسة التي كان يأخذنا إليها في حصص الرسم، شاهدني أرسم فتأمل عملي وقال لي بالحرف الواحد: (أنت رسام موهوب فلا تهجر هذا المجال حتى لو حاول أهلك إقناعك بدراسة فرع آخر)، ثم بدأ يهتم بي، ويطلب مني في الاحتفالات القومية والوطنية الرسم على لوح كبير شخصيات سياسية معروفة في تلك الأيام كـ"جمال عبد الناصر" و"جول جمال" و"شكري القوتلي" وغيرهم.
أول الأوسمة التي تلقيتها، مكافأة على موهبتي، كانت (طيارة) على رقبتي من الفنان القدير "إسماعيل حسني" رحمه الله، فقد طلب ذات يوم من الطلاب رسم سجادة أو بساط المنزل، وكان هذا في الصف الأول الإعدادي، أحضرت لوحتي إلى الصف وبدأت بتلوينها، فوقف فوق رأسي يتأمل عملي، ولم أشعر إلا بكفه الثقيلة تنزل على رقبتي بقوة، فصرخت من الألم محتجاً على ضربي، فضحك ضحكة واسعة وقال لي بالحرف الواحد: أنت موهوب يا (عجي).. أحسنت أكمل عملك، والعجي لفظة تقال أحياناً للولد تحبباً أو إطراءً.
أول ظهور فني لي كان عام 1967، في معرض مشترك، ولم يمر هذا المعرض دون طرفة، وقتها لم أكن معروفاً كفنان في المدينة، وكان المركز الثقافي يعلن عن معرض مشترك لفناني "ديرالزور"، فتقدمت بثلاث لوحات إلى مدير المركز الثقافي آنذاك وهو المرحوم "حسين غفرة"، الذي وما إن شاهد لوحاتي حتى اعترض عليها وطردني من مكتبه متهماً إياي بسرقتها، ولا دليل لديه سوى أن هذه لوحات ذات مستوى فني عال جداً على فنان غير معروف ولم يسمع أحد باسمه.
حاولت إقناع مدير المركز بأن هذه اللوحات لي وأن اسمي "عبد الجبار ناصيف" وأني فنان جديد وأنا أتحمل مسؤولية عرضها فلم يقتنع، إلى أن دخل علينا، أثناء سجالنا، الفنان المرحوم "صالح الشاهر"، فسلم عليّ بحرارة وكنت صديقاً لشقيقه "وليد" وأزورهم في البيت ويعرف لوحاتي جيداً، فزكاني لدى مدير المركز، كما امتدحني كثيراً أمامه كموهبة شابة ينتظرها المستقبل، فقبلت لوحاتي في المعرض ونالت إحداها الجائزة الأولى».
«معرضي الأول الشخصي وهو (فردي) كان في "الحسكة" وأنا طالب في دار المعلمين العامة عام 1966، وقد ضم 28 عملاً بمختلف المواد وأهمها الزيتي، تلاه معرض في "طرطوس" أثناء الخدمة الإلزامية، ثم المعرض المشترك الذي حدثتك عنه منذ قليل، وكذلك معرض فردي في "ديرالزور" عام 1974، إضافة إلى معارض ومشاركات متنوعة كثيرة جداً كان آخرها أواخر عام 2008 في معرض مهرجان التراث الفراتي.
بعت كثيراً من اللوحات في سورية لأناس أعرفهم ولا أعرفهم، وكذلك تم اقتناء لوحاتي من قبل أشخاص أوروبيين من مختلف الجنسيات زاروا مرسمي واقتنوا منه العديد من الأعمال.
أما المرسم فقد شكل بالنسبة لي منعطفاً هاماً في حياتي الفنية بكل معنى الكلمة، وهو أول مرسم لفنان تشكيلي في المحافظة، هذا المرسم شكل عوالمي الخاصة وساعدني في تحقيق ما أصبو إليه فنياً، وجعلني أكتفي به وبطقوسه المليئة بالعمل والأحلام والأحاسيس والمشاريع.
منذ أواخر عام 1987 ومرسمي يستقبل العشرات من الموهوبين، بعضهم أصبح اليوم لامعاً وفناناً معروفاً وربما عضواً في اتحاد الفنانين، وخلال كل هذه السنوات، كنت أقدم لهؤلاء المتدربين خبرتي الفنية ومعارفي، بما في ذلك المواد أحياناً.
لم أتاجر بالفن، ولم أحول مرسمي إلى مشغل للوظائف الشهرية الخاصة بطلاب المدارس، كما لم أسقط في (الفن التجاري) ككتابة اللافتات أو أعمال المقاولات التي تنشط في المناسبات.
أنا سعيد بهذا المرسم وأشعر أن رسالتي الفنية تتحقق به تماماً».
تتغنى دائما بالبيئة الفراتية، ما مدى حضورها وانعكاسها على لوحتك؟
«أولاً أعترف أنني فراتي من الوريد إلى الوريد، ولا تغريني أية هوية أخرى، البيئة الفراتية عجيبة ومدهشة، وهي مكونة من إرث حضاري وفني بالغ الروعة والتعقيد، فوادي الفرات كان، وكما هو معروف للجميع، مهد الحضارات الأولى، وأنا شخصياً أعتز بأنني أحد ورثة هذه الحضارات.
تعج لوحاتي جميعها بالطعم الفراتي، وهذا ليس حالي فقط، فكل من عاش على الفرات تأثر به وببيئته إلى حد التماهي، وهذا هو حال حتى الذين جاؤوا إلى المنطقة بشكل عابر أو مؤقت، كالفنان الكبير "نذير نبعة" الذي عاش سنوات في "دير الزور" وخرج منها وهو يردد: ذاكرتي مملوءة بالفرات.
وهنا لابد من قول شيء هام، إن تعاطي الفنان مع البيئة الفراتية بمستوياتها وتراثها وعناصرها، لا يعني نقلاً فوتوغرافياً لها، بل عليه أن يدرك أنها مادة غنية لاستثمارات حداثية من وجهة النظر الفنية، وكوني فنان حداثي، فقد قمت بمحاولات ومشاريع فنية هدفها إعادة تشكيل البيئة الفراتية حسب مفاهيم الفن الحديث.
أنطلق كفنان مع الحداثة المبنية على الفكر الفني والدراسة والموهبة قبل كل شيء، وغير المنقطعة عن التراث، فالتراث مصدر مهم لانطلاقة فنية عالمية وشاملة، وإن كانت محلية الطابع، وهذا سر نجاح الكثير من الفنون والآداب الأخرى».
حدثنا عن تحولات التجربة الفنية لدى الفنان "عبد الجبار ناصيف"؟
«لا يمكن لأي فنان أن يستمر على تفكير أو أسلوب أو تكتيك واحد، وقد تأتي لحظة ما، بسبب حالة مجهولة، تغير بالفنان ما تغير وتقلب أفكاره ومفاهيمه وأساليبه، أنا شخصياً مررت بمختلف التجارب واستخدمت التكتيكات الفنية المختلفة، ونوّعت كثيراً في ألواني، وذلك لأنني أعتقد أن لا قانون للفن إلا الفنان، فالفنان بإحساسه وانفعالاته وما ينعكس داخله من عوالم وحركة وحياة هو القانون الوحيد للفن، وما اللوحة إلا أحد تجليات هذا القانون».
-هل اللوحة الفراتية بخير؟
«رغم اعتزازي بهذه المنطقة إلا أن اللوحة الفراتية ما زالت مهملة ولم تجد مكانها أبداً في تاريخ الفن، هناك فنانون رائعون لكن المجتمع الديري لا يزال متأخراً في تعاطيه مع اللوحة قياساً إلى الفنون الأخرى كالشعر مثلاً، وهذا يعود إلى أسباب كثيرة تدخل فيها الثقافة وبعض القيم والتقاليد وغياب البيئة الاجتماعية المحفزة».
«أنا شخصياً غير مؤمن بالأساليب الدخيلة، أؤمن فقط بأصابع الفنان وريشته وحواسه وطريقة تعامله مع المواد، أؤمن أيضاً بضرورة وجود علاقة خاصة بين الفنان وأدواته تشبه العشق بحيث تصبح هذه الأدوات طيعة طاعة عمياء للفنان، طاعة المحب وليس طاعة المستبد.
ثمة حقيقة يجب أن نعرفها جميعاً: بقدر ما تخلص للفن يخلص الفن لك والعكس، فالفن أكبر من الفنان، بل إن الفنان ليس سوى جزء صغير من الفن، وعظمة الفنان هي في اشتعالات قلبه وأحاسيسه، فهل تستطيع التكنولوجيا، والكمبيوتر مثلاً أن يؤدي هذا الدور، وأن يشتعل كما القلب والأصابع؟».