اهتم الكثير من الكتاب والباحثين بآثار "الفراتي" الأدبية والفكرية والفنية، وكتب عنه العديد من الدراسات النقدية، كما كان مادة غنية للأطروحات الجامعية وغيرها، إلا أن السيرة الذاتية والكتابات الخاصة المتعلقة بشخصية "الفراتي" وحياته الخاصة كانت قليلة جداً.
من بين هؤلاء الذين اهتموا بالفراتي، وكتبوا عن علاقتهم الشخصية به، ورصدوا بعض التفاصيل اليومية في حياته، كان الشاعر (الدمشقي) د." نزار بني المرجة"، الذي حاضر مراراً في هذا الموضوع، كما نشر بعض المقالات المتعلقة بحياة وشخصية الفراتي، كما رآها عن قرب.
مكانة الفراتي في الشعر السوري خصوصاً والعربي عموماً، لا يمكن أن يختلف عليها النقاد المنصفون، فهو أحد ستة شعراء ولدوا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وكانوا المؤسسين الحقيقيين للحركة الشعرية في سورية وهم : "محمد الفراتي" (1878 – 1978 )، "محمد البزم"(1878-1955)، "خير الدين الزركلي" (1893-1959)، "خليل مردم بيك" (1895-1959)، د. "علي الناصر" (1896-1970) وشفيق جبري (1898-1980) . كانت بداية معرفتي وصداقتي مع الشاعر "الفراتي"، عندما صادفته وسط حركة مزدحمة نسبياً على الرصيف المحاذي لمبنى مديرية البرق والهاتف الآلي في شارع النصر، لقد كنت على موعد، قبل ظهر أحد أيام شهر أيار 1973، لأصادف الفراتي وجهاً لوجه بشخصيته المتميزة وبجسمه النحيل وبزته الرسمية البيضاء وطربوشه الأحمر ونظاراته المماثلة لنظارة "المهاتما غاندي" ولحيته المميزة، بادرته بالتحية باحترام عميق، فردّ التحية بأحسن منها، قد يكون هذا أمر عادي بالنسبة له، ومن المؤكد أنه اعتاد مثل هذه المواقف كونه شخصية معروفة ومشهورة ومميزة، أما أنا فكانت سعادتي لا توصف، بل أكاد لا أصدق أنني أقف مع شاعر الفرات العظيم ومبدع تلك القصيدة الجميلة الشهيرة التي درسناها وبقيت، وستبقى عالقة في الذهن، على خلاف الكثير من النصوص، والتي يقول في مطلعها الشهير: ذاك نهر الفرات فأحبوا القصيدا/من جلال الخلود معنىً فريدا باسـماً للحياة عن سلسبيلٍ/كلمــا ذقته طلبت المزيدا وخريـر كأنه زفراتٌ/من محبٍ قد صعــدَ تصعيدا نحن قتلاه في الهوى وقديماً/ شـفَّ آباءنا وأصبى الجدودا. وبلهجة أبوية دعاني لاحتساء الشاي معه في مقهى "الحجاز"،على الجانب الآخر من الطريق، وبالطبع لم أكن لأقوى على رفض تلك الدعوة، ووجدت نفسي أعود القهقرى وأقطع الشارع عائداً بعكس سيري باتجاه (مقهى الحجاز) ويدي بيد الفراتي. كان إنصاتي للفراتي إنصاتاً للتاريخ، فكم هو شيّق أن يحدثك بنفسه عن سفره إلى مصر وإقامته فيها ستة أعوام ما بين عام 1911 وحتى التحاقه بالثورة العربية الكبرى في الحجاز 1916، وعن تلك الفترة التي أمضاها في مصر، التي عاشها طالباً في جامعة الأزهر، وروى لي عن علاقته الشخصية بأمير الشعراء "أحمد شوقي" وعميد الأدب العربي "طه حسين" وشاعر القطرين "خليل مطران"، والشاعر الكبير "حافظ إبراهيم" و"عبد القادر المازني" و"زكي مبارك"، وعن لقبه (الفراتي) الذي أطلق عليه في مصر ليصبح بعد ذلك كنيته المعتمدة والمعروفة. تعمّقتْ معرفتي أكثر بالشاعر الكبير "محمد الفراتي" وعرفت منه (بصوته) أنه شارك في الثورة العربية الكبرى وتنقل بعدها مناضلاً بين عدة أقطار عربية حيث أمضى ثلاث سنوات في العراق وعقد هنالك صداقات وعلاقات مع نخبة من رواد الشعر العربي المعروفين في العراق كـ"جميل صدقي الزهاوي" و"معروف الرصافي" وغيرهما، كما أمضى ثلاث سنوات أخرى في البحرين، وهناك كان على موعد مع النضال ضد الاحتلال البريطاني، ثم سافر إلى إيران ليعود بعدها إلى سورية لمتابعة النضال ضد الفرنسيين إلى جانب الثوّار حتى الحصول على الاستقلال، وكم كانت ممتعة أحاديثه عن ذكريات شخصية له مع شعراء سورية الكبار كـ"بدوي الجبل" و"شفيق جبري" و"عمر أبو ريشة" و"عبد السلام العجيلي" وغيرهم. لقد كانت الفترة التي عرفت فيها الفراتي هي السنة الأخيرة التي سبقت فترة تقاعده، عقب تفرغه للترجمة عن اللغة الفارسية في وزارة الثقافة، حيث ترجم العديد من روائع الأدب الفارسي، ضمن سلسلة من روائع الأدب الشرقي التي كانت الأولى من بين السلاسل المترجمة التي أصدرتها الوزارة في النصف الأول من الستينيات، وكانت ترجمته لكتاب (كلستان) أو (روضة الورد) للشاعر الفارسي الشهير "سعدي الشيرازي" هي الكتاب الأول الذي أصدرته وزارة الثقافة ضمن هذه السلسلة وذلك في العام 1962 ووصفت تلك الترجمة عند صدورها بأن لغة الترجمة فيها عربية خالصة لا تنـزل عن المستوى اللائق بشاعر كبير مثل "سعدي الشيرازي"، حيث كان الفراتي يترجم الشعر شعراً موزوناً ومقفّى، وجاء ذلك الكتاب في 315 صفحة من الورق الصقيل المزين بالرسوم الجميلة المعبرة عن المضمون. كما صدر للفراتي بعد هذا الكتاب، وضمن السلسة ذاتها، كتاب (روائع من الشعر الفارسي) لـ"جلال الدين الرومي"، ثم ترجمته لكتاب (البستان) لـ"سعدي الشيرازي" أيضاً والذي يضم أكثر من أربعة آلاف بيت من الشعر. ومعروف أن الفراتي ترجم (رباعيات الخيام) وكانت تلك الترجمة واحدة من أجمل الترجمات العديدة لها والتي اشتهرت منها فقط ترجمة "أحمد رامي" التي غنتها السيدة "أم كلثوم". وبذلك يكون الشاعر الفراتي بمفرده هو من أسس وترجم البدايات الهامة لتلك السلسلة المكرسة لترجمة الأدب الشرقي وهذه الحقيقة نجدها مثبتة في الكتاب الصادر عام 1964 بعنوان "وزارة الثقافة والإرشاد القومي" والذي يتضمن توثيقاً لنشاطات وفعاليات تلك الوزارة بين عامي 1959-1964، وهي التي تأسست في العام 1958 كما هو معروف. ولا بد من الإشارة هنا إلى حقيقة كون "الفراتي" من ضمن الكادر التأسيسي الأول لوزارة الثقافة والإرشاد القومي كما كانت تسمى في ذلك الوقت، حيث عمل فيها قرابة عقد ونصف من الزمن بين عامي 1959-1974، أمضى معظمها في الترجمة عن الفارسية كما عمل خلالها أميناً للمكتبة الوطنية في "ديرالزور". وعلمت فيما بعد أنه بالإضافة لكل ما ذكرته، فقد ترجم "الفراتي" كتباً في قواعد تعليم اللغة الفارسية، وأنجز معجماً فارسياً عربياً، وأعمالاً أدبية فارسية هامة مثل "حي تبريز" و "بهارستان" و"نصيحة العطار". وذكر لي الأديب الراحل أنه جمع ورتب كل ما عنده من دواوين الشعر بعد ذلك حسب الموضوع وأصدرها على النحو التالي: 1- العواصف: ويشتمل على الشعر الوطني والقومي. 2-. النفحات: ويشتمل على الشعر الوصفي الوجداني. 3- أروع القصص: ويشتمل على القصص العادي من أخلاقي وحكمي وأمثالي. 4- الهواجس: ويشتمل على الشعر الفلسفي والصوفي. 5- سبحات الخيال: ويتضمن شعر ما وراء الطبيعة، وهو بمثابة سياحة في السماء وما وراء العوالم . 6- صدى الفرات: ويشتمل على الحوادث التي مرت بوادي الفرات. وفي الحقيقة فما قرأته في المكتبة الظاهرية كما أذكر هو "ديوان الفراتي" وديوان "النفحات" و "الهواجس"، أما بقية الدواوين فلم تتح لي فرصة الإطلاع عليها، حيث علمت فيما بعد بأنه أعاد جمع قصائده حسب البلدان التي كتبها فيها ونشرها تحت عناوين: "المصريات" و"الحجازيات"، و"البحرانيات"، و"السوريات". وقد علمت فيما بعد أنه أعاد جمع قصائده حسب البلدان التي كتبها فيها ونشرها تحت عناوين: "المصريات" و"الحجازيات"، و"البحرانيات"، و"السوريات". وكانت مطالعتي لدواوين "الفراتي" تشكل مادة لاستمرار الحوارات الجميلة معه في كل جلسة، فمرة أسأله عن مناسبة إحدى القصائد، ومرة أسأله عن موضوع قصيدة أخرى، ومن المواقف الطريفة التي لا أنساها، أنني سألته ذات يوم بهدوء وجدّية عن رأيه بالشعر الحديث التفعيلة منه والمنثور، فرد علي يومها بنبرة غير معهودة منه قائلاً: (الشعر المنثور أول من أتى لنا به "أمين الريحاني"، والعرب، والشرقيون على الإطلاق، وحتى شعراء الغرب إلى عهد قريب، لا يعرفون شعراً غير موزونٍ أو غير مقفّى ).. ثم أكمل بعصبية وغضب: (يا بني الشعر المنثور قتلٌ للغة وللتراث ولحضارتنا الثقافية ..)، فوجدت نفسي كمن اقترف ذنباً بطرحي عليه ذلك السؤال. وسألته مرةً عن نصيحة يقدمها لي ولزملائي الشعراء الشباب، فقال لي يومها: (نصائحي لشعراء الجيل: أولاً: أن لا يصنعوا الزبيب قبل أن ينضج الحصرم، أي لا يستعجلوا على أنفسهم بنظم الشعر قبل أن يثقفوا أنفسهم، بحفظ روائع شعر أمتهم من قديمٍ وحديث. ثانياً: أن لا يتعسفوا ويتبعوا كل ناعق، ويخرجوا عن محيط أدب أمتهم الذي تفاخر به الدنيا بأسرها ..) ويومها نصحني أيضاً بحفظ أشعار المتنبي وأبي فراس الحمداني وقال لي وكأنه طبيب يصف الدواء لمريضه: عليك أن تحفظ خمسة آلاف بيت من الشعر على الأقل، وأنصحك بحفظ ديوان (الحماسة) لأبي تمام. وعلى طاولة "الفراتي" الرخامية في المقهى، كنت أتأمل دائماً بضعة كتب قديمة ودفاتر ذات تجليد ممتاز قديم أسود أو أخضر، كان يشدني الفضول لمعرفة مضمونها، وذات مرة استرقت النظر إلى ما كان يقرأ الفراتي، فرأيته كتاباً مكتوباً بأحرف عربية ولكن كلماته غير مفهومة، وكانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها كتاباً باللغة الفارسية، ويومها أخبرني الفراتي بأنه ديوان (لسان الغيب) لـ"حافظ الشيرازي"، وأنه يعكف على ترجمته. ومرت بعدها فترة طويلة، لم يتردد فيها الفراتي على المقهى، فسألت عنه فقيل لي قد تقاعد من عمله في وزارة الثقافة وعاد إلى "دير الزور"، وبقيت أتابع أخباره إلى أن علمت بمرضه الذي توفي على إثره، وكان ذلك في 17حزيران من عام 1978، رحم الله الفراتي
في "دمشق"، وبتاريخ 14/2/2009 التقى eDeir alzor بالشاعر "نزار بني المرجة"، (رئيس فرع ريف دمشق لاتحاد الكتاب العرب) وسأله عن سرّ اهتمامه بالفراتي وأين وكيف تعرف عليه، وكيف رآه، فقال:
«مكانة الفراتي في الشعر السوري خصوصاً والعربي عموماً، لا يمكن أن يختلف عليها النقاد المنصفون، فهو أحد ستة شعراء ولدوا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وكانوا المؤسسين الحقيقيين للحركة الشعرية في سورية وهم : "محمد الفراتي" (1878 – 1978 )، "محمد البزم"(1878-1955)، "خير الدين الزركلي" (1893-1959)، "خليل مردم بيك" (1895-1959)، د. "علي الناصر" (1896-1970) وشفيق جبري (1898-1980) .
كانت بداية معرفتي وصداقتي مع الشاعر "الفراتي"، عندما صادفته وسط حركة مزدحمة نسبياً على الرصيف المحاذي لمبنى مديرية البرق والهاتف الآلي في شارع النصر، لقد كنت على موعد، قبل ظهر أحد أيام شهر أيار 1973، لأصادف الفراتي وجهاً لوجه بشخصيته المتميزة وبجسمه النحيل وبزته الرسمية البيضاء وطربوشه الأحمر ونظاراته المماثلة لنظارة "المهاتما غاندي" ولحيته المميزة، بادرته بالتحية باحترام عميق، فردّ التحية بأحسن منها، قد يكون هذا أمر عادي بالنسبة له، ومن المؤكد أنه اعتاد مثل هذه المواقف كونه شخصية معروفة ومشهورة ومميزة، أما أنا فكانت سعادتي لا توصف، بل أكاد لا أصدق أنني أقف مع شاعر الفرات العظيم ومبدع تلك القصيدة الجميلة الشهيرة التي درسناها وبقيت، وستبقى عالقة في الذهن، على خلاف الكثير من النصوص، والتي يقول في مطلعها الشهير:
ذاك نهر الفرات فأحبوا القصيدا/من جلال الخلود معنىً فريدا
باسـماً للحياة عن سلسبيلٍ/كلمــا ذقته طلبت المزيدا
وخريـر كأنه زفراتٌ/من محبٍ قد صعــدَ تصعيدا
نحن قتلاه في الهوى وقديماً/ شـفَّ آباءنا وأصبى الجدودا.
وبلهجة أبوية دعاني لاحتساء الشاي معه في مقهى "الحجاز"،على الجانب الآخر من الطريق، وبالطبع لم أكن لأقوى على رفض تلك الدعوة، ووجدت نفسي أعود القهقرى وأقطع الشارع عائداً بعكس سيري باتجاه (مقهى الحجاز) ويدي بيد الفراتي.
كان إنصاتي للفراتي إنصاتاً للتاريخ، فكم هو شيّق أن يحدثك بنفسه عن سفره إلى مصر وإقامته فيها ستة أعوام ما بين عام 1911 وحتى التحاقه بالثورة العربية الكبرى في الحجاز 1916، وعن تلك الفترة التي أمضاها في مصر، التي عاشها طالباً في جامعة الأزهر، وروى لي عن علاقته الشخصية بأمير الشعراء "أحمد شوقي" وعميد الأدب العربي "طه حسين" وشاعر القطرين "خليل مطران"، والشاعر الكبير "حافظ إبراهيم" و"عبد القادر المازني" و"زكي مبارك"، وعن لقبه (الفراتي) الذي أطلق عليه في مصر ليصبح بعد ذلك كنيته المعتمدة والمعروفة.
تعمّقتْ معرفتي أكثر بالشاعر الكبير "محمد الفراتي" وعرفت منه (بصوته) أنه شارك في الثورة العربية الكبرى وتنقل بعدها مناضلاً بين عدة أقطار عربية حيث أمضى ثلاث سنوات في العراق وعقد هنالك صداقات وعلاقات مع نخبة من رواد الشعر العربي المعروفين في العراق كـ"جميل صدقي الزهاوي" و"معروف الرصافي" وغيرهما، كما أمضى ثلاث سنوات أخرى في البحرين، وهناك كان على موعد مع النضال ضد الاحتلال البريطاني، ثم سافر إلى إيران ليعود بعدها إلى سورية لمتابعة النضال ضد الفرنسيين إلى جانب الثوّار حتى الحصول على الاستقلال، وكم كانت ممتعة أحاديثه عن ذكريات شخصية له مع شعراء سورية الكبار كـ"بدوي الجبل" و"شفيق جبري" و"عمر أبو ريشة" و"عبد السلام العجيلي" وغيرهم.
لقد كانت الفترة التي عرفت فيها الفراتي هي السنة الأخيرة التي سبقت فترة تقاعده، عقب تفرغه للترجمة عن اللغة الفارسية في وزارة الثقافة، حيث ترجم العديد من روائع الأدب الفارسي، ضمن سلسلة من روائع الأدب الشرقي التي كانت الأولى من بين السلاسل المترجمة التي أصدرتها الوزارة في النصف الأول من الستينيات، وكانت ترجمته لكتاب (كلستان) أو (روضة الورد) للشاعر الفارسي الشهير "سعدي الشيرازي" هي الكتاب الأول الذي أصدرته وزارة الثقافة ضمن هذه السلسلة وذلك في العام 1962 ووصفت تلك الترجمة عند صدورها بأن لغة الترجمة فيها عربية خالصة لا تنـزل عن المستوى اللائق بشاعر كبير مثل "سعدي الشيرازي"، حيث كان الفراتي يترجم الشعر شعراً موزوناً ومقفّى، وجاء ذلك الكتاب في 315 صفحة من الورق الصقيل المزين بالرسوم الجميلة المعبرة عن المضمون.
كما صدر للفراتي بعد هذا الكتاب، وضمن السلسة ذاتها، كتاب (روائع من الشعر الفارسي) لـ"جلال الدين الرومي"، ثم ترجمته لكتاب (البستان) لـ"سعدي الشيرازي" أيضاً والذي يضم أكثر من أربعة آلاف بيت من الشعر.
ومعروف أن الفراتي ترجم (رباعيات الخيام) وكانت تلك الترجمة واحدة من أجمل الترجمات العديدة لها والتي اشتهرت منها فقط ترجمة "أحمد رامي" التي غنتها السيدة "أم كلثوم".
وبذلك يكون الشاعر الفراتي بمفرده هو من أسس وترجم البدايات الهامة لتلك السلسلة المكرسة لترجمة الأدب الشرقي وهذه الحقيقة نجدها مثبتة في الكتاب الصادر عام 1964 بعنوان "وزارة الثقافة والإرشاد القومي" والذي يتضمن توثيقاً لنشاطات وفعاليات تلك الوزارة بين عامي 1959-1964، وهي التي تأسست في العام 1958 كما هو معروف.
ولا بد من الإشارة هنا إلى حقيقة كون "الفراتي" من ضمن الكادر التأسيسي الأول لوزارة الثقافة والإرشاد القومي كما كانت تسمى في ذلك الوقت، حيث عمل فيها قرابة عقد ونصف من الزمن بين عامي 1959-1974، أمضى معظمها في الترجمة عن الفارسية كما عمل خلالها أميناً للمكتبة الوطنية في "ديرالزور".
وعلمت فيما بعد أنه بالإضافة لكل ما ذكرته، فقد ترجم "الفراتي" كتباً في قواعد تعليم اللغة الفارسية، وأنجز معجماً فارسياً عربياً، وأعمالاً أدبية فارسية هامة مثل "حي تبريز" و "بهارستان" و"نصيحة العطار".
وذكر لي الأديب الراحل أنه جمع ورتب كل ما عنده من دواوين الشعر بعد ذلك حسب الموضوع وأصدرها على النحو التالي:
1- العواصف: ويشتمل على الشعر الوطني والقومي.
2-. النفحات: ويشتمل على الشعر الوصفي الوجداني.
3- أروع القصص: ويشتمل على القصص العادي من أخلاقي وحكمي وأمثالي.
4- الهواجس: ويشتمل على الشعر الفلسفي والصوفي.
5- سبحات الخيال: ويتضمن شعر ما وراء الطبيعة، وهو بمثابة سياحة في السماء وما وراء العوالم .
6- صدى الفرات: ويشتمل على الحوادث التي مرت بوادي الفرات.
وفي الحقيقة فما قرأته في المكتبة الظاهرية كما أذكر هو "ديوان الفراتي" وديوان "النفحات" و "الهواجس"، أما بقية الدواوين فلم تتح لي فرصة الإطلاع عليها، حيث علمت فيما بعد بأنه أعاد جمع قصائده حسب البلدان التي كتبها فيها ونشرها تحت عناوين: "المصريات" و"الحجازيات"، و"البحرانيات"، و"السوريات".
وقد علمت فيما بعد أنه أعاد جمع قصائده حسب البلدان التي كتبها فيها ونشرها تحت عناوين: "المصريات" و"الحجازيات"، و"البحرانيات"، و"السوريات".
وكانت مطالعتي لدواوين "الفراتي" تشكل مادة لاستمرار الحوارات الجميلة معه في كل جلسة، فمرة أسأله عن مناسبة إحدى القصائد، ومرة أسأله عن موضوع قصيدة أخرى، ومن المواقف الطريفة التي لا أنساها، أنني سألته ذات يوم بهدوء وجدّية عن رأيه بالشعر الحديث التفعيلة منه والمنثور، فرد علي يومها بنبرة غير معهودة منه قائلاً: (الشعر المنثور أول من أتى لنا به "أمين الريحاني"، والعرب، والشرقيون على الإطلاق، وحتى شعراء الغرب إلى عهد قريب، لا يعرفون شعراً غير موزونٍ أو غير مقفّى ).. ثم أكمل بعصبية وغضب:
(يا بني الشعر المنثور قتلٌ للغة وللتراث ولحضارتنا الثقافية ..)، فوجدت نفسي كمن اقترف ذنباً بطرحي عليه ذلك السؤال.
وسألته مرةً عن نصيحة يقدمها لي ولزملائي الشعراء الشباب، فقال لي يومها: (نصائحي لشعراء الجيل:
أولاً: أن لا يصنعوا الزبيب قبل أن ينضج الحصرم، أي لا يستعجلوا على أنفسهم بنظم الشعر قبل أن يثقفوا أنفسهم، بحفظ روائع شعر أمتهم من قديمٍ وحديث.
ثانياً: أن لا يتعسفوا ويتبعوا كل ناعق، ويخرجوا عن محيط أدب أمتهم الذي تفاخر به الدنيا بأسرها ..)
ويومها نصحني أيضاً بحفظ أشعار المتنبي وأبي فراس الحمداني وقال لي وكأنه طبيب يصف الدواء لمريضه: عليك أن تحفظ خمسة آلاف بيت من الشعر على الأقل، وأنصحك بحفظ ديوان (الحماسة) لأبي تمام.
وعلى طاولة "الفراتي" الرخامية في المقهى، كنت أتأمل دائماً بضعة كتب قديمة ودفاتر ذات تجليد ممتاز قديم أسود أو أخضر، كان يشدني الفضول لمعرفة مضمونها، وذات مرة استرقت النظر إلى ما كان يقرأ الفراتي، فرأيته كتاباً مكتوباً بأحرف عربية ولكن كلماته غير مفهومة، وكانت تلك المرة الأولى التي أرى فيها كتاباً باللغة الفارسية، ويومها أخبرني الفراتي بأنه ديوان (لسان الغيب) لـ"حافظ الشيرازي"، وأنه يعكف على ترجمته.
ومرت بعدها فترة طويلة، لم يتردد فيها الفراتي على المقهى، فسألت عنه فقيل لي قد تقاعد من عمله في وزارة الثقافة وعاد إلى "دير الزور"، وبقيت أتابع أخباره إلى أن علمت بمرضه الذي توفي على إثره، وكان ذلك في 17حزيران من عام 1978، رحم الله الفراتي».
يذكر أن الشاعر الكبير" محمد الفراتي" واحداً من أهم الشخصيات الفراتية على مر العصور، لما له من مآثر وأيادٍ بيضاء على بني جلدته، إذ كان من أوائل المعلمين لأبناء مدينته، وأول من أوقد في جنباتهم شعلة القومية العربية، وأول منفي ومطارد من قبل السلطات الفرنسية، كما كان أول شاعر(فصيح) في عموم وادي الفرات، حيث يبدو الأرشيف الأدبي للمنطقة، طوال الفترة العثمانية، خالياً من الأسماء السابقة لـ"محمد الفراتي" في هذا المضمار.
و"الفراتي" الذي درس في الأزهر الشريف، وشارك كبار شعراء مصر والعربية نشاطاتهم الأدبية والشعرية، كـ"حافظ ابراهيم" و"علي محمود طه" و"أحمد شوقي" وغيرهم، كان سريع الاستجابة لنداء التحرر العربي من الجهل والاستبداد العثماني، حيث غادر الأزهر ملتحقاً بالثورة العربية الكبرى التي كان يقودها "الشريف حسين"، ومنها عاد إلى مصر للمشاركة في ثورة "سعد زغلول".
بعد أن أنهى دراسته، أدار ظهره لمغريات "القاهرة"، وعاد إلى مسقط رأسه في" دير الزور" ليخوض فيها معاركه الشرسة مع الجهل والتخلف والأمية التي كانت تضرب في المجتمع، دون أن ينسيه ذلك مهامه الوطنية الأخرى والتي كان أهمها مقارعة الاحتلال الفرنسي، وهو ما أثار عليه السلطات المحلية فقررت نفيه إلى العراق، التي كان يغادرها أحياناً إلى دول أخرى كالبحرين وإيران، وفي هذه الأخيرة أتقن اللغة الفارسية ليساهم بعد ذلك في اغناء المكتبة العربية بترجمات متقنة لما يزيد عن سبعة آلاف بيت من عيون الشعر الفارسي.
*المراجع:
الفراتي..حياته وشعره – د. شاهر مرير.
محمد الفراتي – أحمد شوحان.
حضارة وادي الفرات – عبد القادر عياش.