يحتل الوطن بكل مكوناته الاجتماعية والطبيعية مكاناً بارزاً لدى الأدباء بشكل عام، وتتعاظم هذه المكانة في حال كان الوطن يمر بظرف تاريخي صعب كالاحتلال، أو كان الأديب نفسه يعيش حالة اغتراب ولفترة طويلة من الزمن، فكيف الحال إذا احتمع الأمران معاً وهذا ما حدث مع الشاعر "محمد الفراتي" الذي تناول في جزء كبير من شعره قضايا الوطن وهمومه، وهذا الشاعر عموماً قد لا تتأتى أهميتة كشاعر من أهمية ما كتبه فحسب، بل لكونه من أوائل- إن لم يكن الأول- أبناء "دير الزور" في عصرها الحديث الذي يكتب الشعر بالعربية الفصيحة بعد أن كان شائعاً بكثرة ولكن باللهجة المحكية خلال القرن الماضي الذي شهدت بداياته أول ظهور "للفراتي".
حول شعره وتحديداً حول الوطن في شعره التقى موقع eSyria الدكتور "شاهر امرير" أستاذ في كلية الآداب- جامعة "الفرات"، عضو اتحاد الكتاب العرب، فحدثنا عن هذا الجانب بالقول: «لعل اختيار الشاعر للقب "الفراتي" يوحي للدارس منذ البداية بذلك الالتصاق الحميم بمفردات الوطن أرضاً وأهلاً وسماءً وماء... فقد حمل "الفراتي" صورة الوطن حيثما حل، وأنى ارتحل، فنراه يأسى للملمات التي حاقت بوطنه، والمصائب التي نزلت بشعبه ولا يملك لها وهو في مغتربه القسري "ببغداد" سوى البكاء والنواح والتنفيس عن مكنونات صدره بالشعر، والتعبير عما يجيش في دواخله بالقصيد:
لعل من أبرز ما يدل على وعي "الفراتي" للمسألة الوطنية وسبل تقدم الوطن هو دعوته لبناء المجتمع الصناعي والزراعي: يا طالب الإصلاح، ويحك ما الذي/ يثنيك في الدنيا عن الإصلاح تبغي الرقـي وقد جهلت طريقه / فاطــلبه بـين مسـاحـجٍ ومساحــي وأعـن على إنهــاضـهـا ورقـيـها / بـالعــلـم لا بأســـنـة وصــفـــاح
"ولقد أبيت على أحر من الغضا/ بالـكرخ ليلي... خائفاً مرعوبا
لـفجـائـع بالشـام لم أمـلـك لـها/ إلا نشـيـجـاً مـؤلماً... ونـحيـبا".
ونراه أحياناً يوجه الخطاب بشكل مباشر إلى الوطن من خلال عاصمته "دمشق" ليقدم بين يديها بكائيته فدموعه التي انهمرت شعراً هي منتهى ما يستطيعه:
"أدمشق دمعي عن هواي مترجم/ إن كنت لا أسطيع فيك مقالا
أأقيم في دار السلام وصحبتي/ بالشام تلقى في الحروب نكالا
نفسي تنازعني ولست بمالك/ بالكـرخ إلا دمعي الهـطــــــالا"».
ومن يتتبع شعر "الفراتي" يجد أنه يحيا يوميات النضال الوطني ضد المستعمر الفرنسي ويشارك الشعب العربي السوري بالكلمة الثائرة، ومن ذلك ما سلط الدكتور "امرير" الضوء عليه بقوله: «سلط "الفراتي" شعره سياطاً يجلد بها المستعمر الفرنسي الذي أذاق الشعب ألوان القهر والاضطهاد وسدد سهامه المميتة إلى قلب الوطن السوري يزرع الفرقة ويبث السموم:
فما غرستم وداداً في حواضرنا/ ولا زرعتم جميلاً في بوادينا
ويقول أيضاً:
طعنت حشاشتها فرنسا طعنةً / نجلاء... شعشعها الدم المسفوح
كما أن الشاعر يكشف زيف المستعمر ويفضح أكاذيبه فها هو يعري ادعاءات الفرنسيين بأنهم جاؤوا إلى بلادنا لينشروا التمدن في ربوع الوطن المتخلف، فما الذي جلبوه من سبل التقدم؟
كانت سنيناً.. كسم الموت قاتلةً/ مدنتمونا بها بالرقص تمـدينا
هيهات هيهات أن ننسى نذالتكم/ ما لم نكن مثلكم هوجاً مجانينا».
وحول مفهوم الحرية والوطن الحر في شعره أضاف قائلاً: «"الفراتي" يرى أن الحرية يصنعها الشعب الحر الأبي، يصنعها المناضلون الأحرار وليس من يخونون أوطانهم ويبيعون ضمائرهم.
الحر يأبى أن يبيع ضميره / بجميع ما في الأرض من أموال
شتان بين مصرح عن رأيه / حـرٍ... وبـيـن مخــادع خـتــال
يرضى الدنـاءة كل نـذل ساقـطٍ / إن الدنـاءة شـيمة الأنــذال.
ولعل الشطر الأخير يصلح أن يطلق مثلاً أو لعله كذلك واستثمره "الفراتي" "إن الدناءة شيمة الأنذال"».
وربما تكون أهم معالم الوطنية عند الشاعر "الفراتي" هو رثاؤه للشهداء الذين استشهدوا من أجل عزة الوطن واستقلاله وفي هذا يتابع الدكتور "امرير" قوله: «"للفراتي" شعر كثير في رثاء الشهداء من رواد الحركة السياسية والنضال الوطني حيث يقول في رثاء الشهيد "أحمد مريود":
لما أتـاني بـالعراق نـعـيه / أحسست ما بـين الضلوع لهــيـبا
فلئن هـوى بالشام من عليائه / فلــقد تـنـزَل كـوكـباً مشبـوبا
وإذا الكريم قضى حقوق بلاده / نال المراد وأدرك المطلوبا.
وفي رثاء المناضل "سعيد العاص" قال "الفراتي":
فتى العاصي وأي فتى عظيم / قد احتشدت بمأتمه السراة
ففي بردى وفي العاصي نواح / لـه تلتاع دجلة، والفرات».
وحول وعي "الفراتي" للمسألة الوطنية أضاف: «لعل من أبرز ما يدل على وعي "الفراتي" للمسألة الوطنية وسبل تقدم الوطن هو دعوته لبناء المجتمع الصناعي والزراعي:
يا طالب الإصلاح، ويحك ما الذي/ يثنيك في الدنيا عن الإصلاح
تبغي الرقـي وقد جهلت طريقه / فاطــلبه بـين مسـاحـجٍ ومساحــي
وأعـن على إنهــاضـهـا ورقـيـها / بـالعــلـم لا بأســـنـة وصــفـــاح».
ومن الجدير بالذكر أن الشاعر "الفراتي" كما عرف به الباحث "عمر صليبي": «هو "محمد بن عطا الله بن محمود العبود" ولد "بدير الزور" عام 1890 لقب "بالفراتي" منذ نعومة أظفاره واشتهر بذلك منذ أن بدأ بنشر بواكير شعره.
تعلم في مدرسة "الرشدية" بدير الزور وأتم تحصيله في "حلب" وانتقل إلى "بيروت" ثم إلى فلسطين واستقر في "يافا" ومنها انتقل إلى "الجامع الأزهر" بمصر وأقام في رواق "الشوام" في عهد الشيخ "سليم البشري" وزامله في "الأزهر" "عبد القادر المازني" و"زكي مبارك"».
ومن إصدارات "الفراتي" وفق ما ذكرها الأستاذ "مازن شاهين" في كتابه تاريخ محافظة "دير الزور" ص323إصداراته: "العواصف"، "النفحات"، "أروع القصص"، "صدى الفرات"، "الهواجس"، "سبحات الخيال".
ترجمة عن الفرنسية: "روائع شعر لامارتين".
ترجمة عن الفارسية: "روضة الورد" لـ"سعدي الشيرازي"، روائع الشعر الفارسي، روائع شعر "عمر الخيام"، "معجم فارسي"، ثلاثة أعمال في قواعد اللغة الفارسية وتعليمها بالعربية، "البستان" لـ"سعدي الشيرازي"، ألف بيت شعر لـ"بندر العطار"، "وحي تبريز"».