حين يأتي الحديث على ذكر تجربة الشاعر "عبد الجبار الرحبي" فإن الحديث هنا يكون عن عقود طويلة قضاها هذا الشاعر برفقة الكلمة الشعرية والتي بدأت رحلته معها منذ طفولته وحتى نهاية سنوات عمره التي قاربت التسعين.
عن تجربته الأدبية حدثنا الناقد الأدبي "سراج جراد" بالقول: «"عبد الجبار الرحبي" أحد أبرز وأهم شعراء وادي الفرات ويعد الوريث الشرعي لشاعر الفرات "محمد الفراتي" الذي عاصره وعاش معه فترة طويلة من الزمن، إلا أن "الرحبي" آثر أن يكون رهين محبسيه، داره وكتابه، كردة فعل على الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي آنذاك مما أثر على حياته وشعره الذي اتسم بالنقد اللاذع للواقع الاجتماعي وبعض العادات والموروثات التي كان موقفه منها سلبياً وقد اتسم شعره بالقوة والجزالة فهو ابن اللغة العربية الذي تمكن من مفرداتها وقوافيها وموسيقاها و"الرحبي" ظل محافظاً على خطه الشعري التقليدي دون أن يتاثر بالشعر الحديث وقصيدة النثر، بل إن موقفه منهما كان سلبياً كشاعر اعتمد العمود الشعري ميزاناً له».
"المثاني، أغاريد، ألحان شاعر، ألحان شاعر، الروائع، التسابيح، ذكرى شاعر الخلود"
لإلقاء الضوء على أهم القضايا التي تناولها الشاعر في كتاباته التقينا أولاً بالناقد الأدبي "ياسر الظاهر" الذي لأفادنا بالقول: «إن المتتبع لتجربة الشاعر "عبد الجبار الرحبي" الشعرية يجد انعكاساً واضحاً لحياة الشاعر ومواقفه في تلك التجربة، حيث نجد أن شعره قد تناول ثلاث محطات أساسية لعل أهمها تلك العزلة التي عاشها في سنواته الأخيرة وما قدمت له من أفكار ورؤى، تلك العزلة التي لم تؤثر على إبداعه الأدبي وعلى تجربته الشعرية فاللؤلؤ لا يضيره أن يكون داخل الصدفة والبلبل لا ينقص من روعة تغريده وجوده داخل القفص:
اصح وردد على سمع الزمان صدى/ أحلام نفسك وسط الروض في شغف
لم يمنع البلبل الغريد عن طرب/ أن بات في قفص أو روضة أنف
واللؤلؤ الرطب لم تنقص كرامته/ إن كان في العقد أو إن كان في الصدف
وفي موضع آخر يحاول شاعرنا أن يبرر أسباب انعزاله راداً ذلك إلى مصائب الدهر وعناده فيقول:
دخيلك يا زمان فقد كفاني/ سباقي للعلا فرسي رهان
وحسبي ما أرتنيه الليالي/ من الحشرات في صور الغواني
فإن تكن الأذاة لديك طبعاً/ فخذها غير مطلوب الضمان
فبين الشاعر ودهره أخذ ورد فالأول منه الصبر والثاني منه الشدة:
على مضض الجفا قاسيت دهري/ يريني شدة وأريه صبري
ويلقاني بوجهٍ مكفهرٍ/ وألقاه بأنف مشمخر
والأيام عند الشاعر تنطوي في غياهب الزمن حتى تترك المرء دون شعورٍ منه وقد هبت عليه أعاصير الخريف:
يا ليالي الصفو والصفو كما/ تبهج الوسنان في الحلم الطيوف
كيف هبت للنوى اليوم على/ روحك الساجي أعاصير الخريف
أما المحور الثاني والذي لا يقل أهمية عن الأول فهو الارتباط الوثيق بين الشاعر وبيئته وتحديداً نهر الفرات فنجده يتغزل به واصفاً واديه الذي يرى في جماله عظمة الخالق:
وادي الفرات جنانه وحقوله/ ورياضه فيها الجمال لقد سرى
والحسن في آلائه وفتونه/ أبداً أراه ممثلاً فيما أرى
سبحان ربي حين أنظر صنعه/ وأرى عليه جلاله قد صورا
ومن شعره أيضاً في وادي الفراتأيضاً:
مغاني الحسن في وادي السلام/ من المضني يناديك التياعا
أجنات وبؤس ليت شعري/ حياة كيف نحياها اقتناعا
يهيج الشعر في نفسي شجوناً/ فأنظمة جميلاً وابتداعا».
أما عن المحور الثالث فقد حدثنا عنه الشاعر"علي الجاسم " بالقول: «لعل المحطة الثالثة في شعر الشاعر الكبير "عبد الجبار الرحبي" تتمثل بالهم الوطني والقومي فنراه يستذكر "لواء الاسكندرونة" بقوله:
"اسكندرون" نحميها بأنفسنا/ بلى ونروي ثراها بالحسام دما
من كان يجهل ماضينا فإن لنا/ ملاحماً أخرت الترك والعجما
القادسية واليرموك شاهدة/ على البطولة من أسلافنا العظما
ويتذكر شاعرنا فلسطين في شعره وهو المهموم بها داعياً إلى الدفاع عنها بالقول:
سلام يا فلسطين وعار/ إذا نطوي النفوس على الجراح
ولم ننهض بأسياف موطن/ لأخذ الثأرفي يوم الكفاح
لقد آن الأوان لدك بغي/ رمانا فيه أبناء السفاح
والشاعر إذ يستذكر يوم الجلاء يتغنى به بالقول:
لبست حلاها دولة الفيحاء/ فبدت تميس كغادة هيفاء
لتعش بلادي حرة مشمولةً/ طول الحياة براحة وهناء
و"لدمشق" مبعث الفخر في قلب كل سوري نصيبٌ من شعره إذ يقول فيها:
يا "دمشق" العلا وأي فخار/ لك ما بين طارفٍ وتليد
يا "دمشق" الفخار ما أنت إلا/ جنة الخلد والهوى والنشيد».
ومن الجدير بالذكر أن للشاعر "الرحبي" –وفق ما ذكر الباحث "عبد الصمد حيزة" في كتابه "رواد الفكر بوادي الفرات"- عشرات الدواوين منها: «"المثاني، أغاريد، ألحان شاعر، ألحان شاعر، الروائع، التسابيح، ذكرى شاعر الخلود"».