نشم من قصائده رائحة "الفرات" وبساطة بلدته "البوكمال" التابعة لمحافظة "دير الزور" إنَّه الشاعر الشعبي والفصحى الأستاذ "مزاحم حمزة عبد الرحمن الكبع".
حيث ناقش موقع "eSyria" معه "الأبوذيَّات" مصطلحه الشعري وأمور شعرية أخرى في الحوار التالي:
كأنما يغرف الشاعر مزاحم الكبع قصائده من ماء النبع، بعد أن هجر تقعر الأجداد في اختيار صورهم التي نحتوا بعضها من صخر صلد، وملَّ من استصعاب بعضهم لقول الشعر أو القصيدة الهادئة كما أنثى تستحم في بحر الخجل. "مزاحم" القبع شاعر مثقل برؤيا الشعر الحالمة في زمن قلّ في الحلم، يكتب في زمن عزّت فيه الكتابة، وعزَّ فيه البحث عن مكنون الجمال، فمن يقرأ الشعر في هذا الزمن المتصحر من كل عشب وزهر؟؟. يصرُّ على جمالية الصورة دون انفعال ولا افتعال، ويشتغل على هذا الجانب الجمالي، ويجد متعته الذاتية فيها قبل أن يفكر بإمتاعنا نحن القراء، يبرع الشاعر القبع في الشعر العمودي دون أن يوجع قلبه بحفظ واستظهار بحور الخليل، فتأتي القصيدة منسابة على قلمه ضاجَّة بالأنوثة، وصحيحة لا يعتريها كسر أو التواء، لكنَّه ليس أقل إبداعاً في كتابة القصيدة الشعبية، وله في باب القصيدة الشعبية الأبوذية الباع الطويل. يشترك مزاحم بنشاط كبير في إحياء الأمسيات الأدبية في كل بقعة عزيزة من بقاع الوطن، يفضّل قراءة الشعر لجمهوره الذي أحب قصائده الجميلة، ورغم أنه يكتب منذ زمن طويل إلا أنه للآن لم يقتنع بفكرة إصدار كتاباته النبطية والشعبية في قالب كتاب. لعل مهنة "الكبع" اليومية في التعامل مع المرض والمرضى وتخديرهم أسهمت في نزوعه نحو القصائد التي تخدّر القلب لشدة الجمال والانبهار الذي طالما افتقدناهما في نصوص شعراء اليوم الذين يستسهلون السهل حتى ليبدو ترفاً لا مرتجى منه. قصائد "الكبع" لا تنتصر للموت وآلامه، إنها تنتصر للحياة، وتنشد الجمال في كل وقت
** قد لا أستحق هذا اللقب الذي لقبني به بعد الأصدقاء، بسبب ما سمعوه مني من القصائد تندرج في هذا الشكل الشعري أرضت قسماً من أذواقهم فاعتبروني أجيد هذا النوع من الشعر الشعبي أكثر من أي نوع آخر.
و"الأبوذية" هي ضرب من ضروب الشعر الشعبي مؤلف من بيتين بأربعة أشطر ثلاث منها في جناس واحد تتحد في اللفظ وتختلف في المعنى، أما الشطر الرابع فينتهي بياء مشددة تليها هاء مهملة وتسمى "القفلة".
مثال ما كتبته من "الأبوذيات":
عمر ما كفّى لهمومي ولاسن
أكاون بالدهر وحدي والاسن
مشت الأيام ما ظلّي ولاسن
ولا عين البقت تبجي عليّه
وهناك عدة أقوال لسبب تسمية "الأبوذية" بهذا الاسم منها أنها أخذت مصطلح "أبو أذية" أي صاحب الأذى وذلك لأن ناظمها لا يكتبها إلا إذا أصيب بحادثة مؤلمة.
وتسمى أيضاً "عبودية" نسبة إلى أول من كتبها وهو "حسين العبادي" من "العراق".
** هناك أنواع لهذا النمط الشعري منها على سبيل المثال لا الحصر، "الأبوذية المطرّزة" وفن التطريز في الشعر يقصد به بدء الأشطر بأحرف اسم معين كاسم الحبيبة أو الصديق أو ما شابه، كما في هذا المثال المطرّز باسم "عبير" ابنتي:
ع: على لون الورد خدك تعالى
ب: بدر فوق النجم كلها تعالى
ي: ينادي خافقي المولى تعالى
ر: رجائي يصونه من شر الأذية
"الأبوذية المدورة" وهي التي يكون المعنى بالشطر الثالث غير واضح ويكمله الشطر الرابع، مثل:
يهل كلما يمر طيفك أهلى
عزيز وما بقى غيرك أهل لي
بعد كل ذاك المفارق أهل لي؟
ثواني لشوفتك قبل المنيّة
بقي أن أشير إلى أن "الأبوذية" تكتب على بحر الوافر "مُفَاْعَلَتُنْ مُفَاْعَلَتُنْ فَعُوْلُن"
** الوطن أسوار تحمينا وخيمة
أظلل ساتره بروحي وأخيمه
وعاقبة اليخون أرضه وخيمة
مصيره الظيم والذل والأسية
الوطن يا صاحبي قصة عشق مفضوح
لا هو عنا يبتعد ولا يمكن إحنا نروح
وما همنا بها العمر مهما امتلينا جروح
بس جرح واحد بالوطن يدمي القلب والروح
الوطن يا صاحبي خيمة وعلم وشراع
فرحة الأم بطفلها بأول حبو عالكَاع
عن حبو لا ما تنثني لو قسموها ارباع
والوطن يبقى الوطن روح وبصر وذراع
والأرض مثل العرض ما تنشرى وتنباع.
** أنا لا أختار شيئاً، ولم أكن يوماً ما في موقع الاختيار، إنما القصيدة هي التي تختار نفسها بنفسها، وذلك تحت عدة مؤثرات، أهمها الموضوع بحد ذاته ومدى تأثيره على الشاعر وأيضاً مدى تفاعل إرهاصات الشاعر وجنونه (إن صح التعبير) مع هذا المؤثر.
فالقصيدة قبل أن تكتب تكون مثل الجنين لا نعرف كيف ومتى سيولد، وإن كان العلم الحديث استطاع أن يحدد جنس المولود (ذكراً كان أم أنثى) وهو لا يزال في بطن أمه فإنه لا يستطيع تحديد لون بشرته ولون عينيه وشعره، وكذلك القصيدة ربما نستطيع سلفاً أن نحدد موضوعها (وطنية، عاطفية، اجتماعية..) لكن الشاعر (الذي يحترم نتاجه) لا يمكن له أن يحدد مسبقاً كيف ستكون القصيدة، هل هي فصيحة (موزون، تفعيلة، نثر..) أم هي شعبية..!؟
** نعم، حينها كان عمري حوالي خمسة عشر عاماً عندما قرأت قصيدة (أراك عصي الدمع) لأبي فراس الحمداني وحين وصلت إلى البيت الذي يقول:
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى / وأذللت دمعاً من خلائقه الكبر
جمدت في مكاني أمام هذا البيت وأصابتني قشعريرة لم أجد لها تفسيراً في ذلك الوقت، وأذكر أنني في ذات اليوم كتبت أولى قصائدي والتي مطلعها:
ذكرت الحبيب وقلبي انفطر
ودقّ الفؤاد ودمعي انهمر
فصوت الحبيب كصوت الكنار
ووجه الحبيب كضوء القمر
** برأيي أن الديوان الأول يعتبر بمثابة جواز سفر الشاعر إلى الناس لذلك يجب التريث كثيراً كثيراً، قبل الشروع في طباعته، لأنه إذا خرج ضعيفاً سيترك أثراً سلبياً لدى القارئ لا يمكن محوه بسهولة.
**لا أحد ينكر عزوف الناس عن ارتياد المراكز الثقافية وحضور الأنشطة، ولهذا أسباب عدة منها يتعلق بنوع هذه الأنشطة ومدى قيمتها الثقافية، ومنها ما يتعلق بالأدباء أنفسهم وجودة نتاجهم الأدبي ومدى قدرتهم على جذب الحضور، ولكن أرى أن للقائمين على هذه المراكز من مديري ومرشدي الثقافة والموظفين، دوراً هاماً جداً في تنشيط حركة مراكزهم وجعلها منارة يرتادها المثقفون والمهتمون ويعتادون عليها كأمكنة ضرورية لحياتهم، ففي الوقت الذي تذهب فيه إلى مركز ثقافي في العاصمة أو في أي محافظة أخرى لحضور أمسية أدبية وتجد عدد الحضور لا يتجاوز عدد أصابع اليد تتفاجأ في مركز ثقافي في قرية تابعة لمنطقة السلمية بحماة "قرية المبعوجة" بحضور يتجاوز المئتي شخص وربما يزيد، أتى قسم منهم من القرى المجاورة، وهذا لم يأت من فراغ بل نتيجة طبيعية للنشاط المفرط الذي تقوم به مديرة المركز الأستاذة "رجاء إبراهيم" في التحضير وتكرار دعوتها للناس فضلاً عن حفاوة الاستقبال للمشاركين ودعوتهم إلى منزلها والتكريم الذي يلقاه كل أديب ومثقف يذهب إلى هذا المركز النائي، ينبغي علينا أن نحيي هذه الأستاذة ونرفع لها القبعة، وهذه ليست شهادة مني فحسب ويمكنكم أن تسألوا أي شخص أقام هناك نشاطاً ما، وأتمنى أن تحذو كل المراكز الثقافية في سورية حذو هذه التجربة.
** للشعر الشعبي أشكال عدة منها: القصيدة الشعبية الفراتية العمودية، وأيضاً هناك الموّال والزهيري والنايل والعتابا والدارمي...، ولكن الأبوذية تبقى مكمن قوة شاعرية الشاعر.
لي قصائد فراتية كثيرة وأيضاً لي محاولات في الزهيري والدارمي، وبالعودة إلى أرشيف مهرجان القصيدة الشعبية في سورية بدوراته الأربع تجد أنني قدمت أنواعاً مختلفة من الشعر الشعبي.
** كلمة بمثابة نداء "ارحموا الشعر الشعبي من الأقاويل والاتهامات لأنه تراثنا وحضارتنا ومجتمعنا بشكله الإنساني النقي".
وفي رأي للشاعر والناقد "عمر كوجري" يقول عن "مزاحم الكبع": «كأنما يغرف الشاعر مزاحم الكبع قصائده من ماء النبع، بعد أن هجر تقعر الأجداد في اختيار صورهم التي نحتوا بعضها من صخر صلد، وملَّ من استصعاب بعضهم لقول الشعر أو القصيدة الهادئة كما أنثى تستحم في بحر الخجل.
"مزاحم" القبع شاعر مثقل برؤيا الشعر الحالمة في زمن قلّ في الحلم، يكتب في زمن عزّت فيه الكتابة، وعزَّ فيه البحث عن مكنون الجمال، فمن يقرأ الشعر في هذا الزمن المتصحر من كل عشب وزهر؟؟.
يصرُّ على جمالية الصورة دون انفعال ولا افتعال، ويشتغل على هذا الجانب الجمالي، ويجد متعته الذاتية فيها قبل أن يفكر بإمتاعنا نحن القراء، يبرع الشاعر القبع في الشعر العمودي دون أن يوجع قلبه بحفظ واستظهار بحور الخليل، فتأتي القصيدة منسابة على قلمه ضاجَّة بالأنوثة، وصحيحة لا يعتريها كسر أو التواء، لكنَّه ليس أقل إبداعاً في كتابة القصيدة الشعبية، وله في باب القصيدة الشعبية الأبوذية الباع الطويل.
يشترك مزاحم بنشاط كبير في إحياء الأمسيات الأدبية في كل بقعة عزيزة من بقاع الوطن، يفضّل قراءة الشعر لجمهوره الذي أحب قصائده الجميلة، ورغم أنه يكتب منذ زمن طويل إلا أنه للآن لم يقتنع بفكرة إصدار كتاباته النبطية والشعبية في قالب كتاب.
لعل مهنة "الكبع" اليومية في التعامل مع المرض والمرضى وتخديرهم أسهمت في نزوعه نحو القصائد التي تخدّر القلب لشدة الجمال والانبهار الذي طالما افتقدناهما في نصوص شعراء اليوم الذين يستسهلون السهل حتى ليبدو ترفاً لا مرتجى منه.
قصائد "الكبع" لا تنتصر للموت وآلامه، إنها تنتصر للحياة، وتنشد الجمال في كل وقت».