عين "البوجمعة" ملحمة تاريخية تدعو إلى الفخر والاعتزاز، تحمل مضموناً بطولياً مثالاً في التضحية والاستبسال، أبطالها من أبناء الفرات الذين سجّلوا بطولات رائعة في سجل النضال الوطني، لرفع علم الوطن عالياً، وطرد المحتل وسحقه وتلقينه درساً قاسياً، يسجله التاريخ في صفحاتٍ من ذهب وكلماتٍ من ألماس.
وللتعرف على هذه الملحمة البطولية، والتي غيرت مجرى التاريخ بالنسبة لأهالي "دير الزور" التقى eSyria الباحث والإعلامي "مازن الشاهين"، والذي بدأ حديثه معنا بالقول:
هذه الملحمة كشفت النقاب عن وجه المستعمر الفرنسي وبشاعة معاملته، واستخدامه النساء والشيوخ الطاعنين في السن كورقة ليضغطوا بها على الثوار لأن العربي شرفه مقدس ولا يرضى أن يهان مع العلم أن الثوار كانوا يعرفون مسبقاً أنهم في طريقهم إلى الإعدام، وقدموا أرواحهم فداءً لنسائهم وشيوخهم وأهلهم
«لقد تمت اتصالات بين زعماء الثورة السورية الكبرى وبعض الوطنيين من أبناء الفرات منهم "محمد العيّاش" الذي اجتمع في دمشق مع "عبد الرحمن الشهبندر" زعيم حزب الشعب وبحث معه موضوع مد الثورة إلى منطقة الفرات وفتح جبهة ضد الفرنسيين لتشتيت قواتهم، عاد "العيّاش" من "دمشق" وبدأ يعد العدة بإثارة غيرة وحماسة أهالي الفرات، واتفق مع أخيه "محمود" على أن يذهب إلى قرى عشيرة "البوسرايا" غربي مدينة "دير الزور" وأن يشكل مع أصدقائه أنصاراً يرضون في العمل من أجل الثورة بشكل مجموعات ثورية».
وتابع "الشاهين" حديثه عن المجموعات الثورية التي شكلها العيّاش حيث قال بهذا الخصوص: «استطاع أن يؤسس "العيّاش" مجموعة مؤلفة من اثني عشر رجلاً مسلحاً كانوا على أهبة الاستعداد للقيام بأي عمل عسكري ضد الفرنسيين وهم "محمود العيّاش" من "دير الزور"، "حكمي علي العبد السلامة"، "عزيز العلي العبد السلامة"، "حاج علي العبد السلامة"، "حسن العبد السلامة"، "حمزة العبد السلامة"، "اصلبي المسعود العبد الجليل"، "خلف الحسن المحمد"، "أسود الحمدان"، "أحمد الحسن"، "حميد السلطان"، "عبد الله الخلف الابراهيم"، "حمد بن رديني"، فيما كان بعض الأشخاص يعملون مع الفرنسيين في مراكز الترجمة وغيرها ولكنهم في خدمة الثوار حيث كانوا يأتون بالأخبار لـ"محمد العيّاش" عن أوضاع وتحركات الفرنسيين ونشاطاتهم».
وعن بداية عملياتهم الثورية قال: «في أحد الأيام أخذ منهم المترجمون علماً بأن سيارة فرنسية تقل ضباطا فرنسيين تغادر "دير الزور" في طريقها إلى حلب وأعلم الثوار بذلك، عندها بدأ الثوار يتحينون الفرصة للإيقاع بهؤلاء الضباط وقتلهم، وبعد استقصاء الأمكنة على الطريق كمن الثوار للفرنسيين في موقع "عين البوجمعة" على طريق "دير الزور"- "الرقة" حيث يخترق الطريق العام في هذا المكان واديا عميقا جداً وعليه جسر حجري ضيق، وهذا الممر إجباري للذهاب من "دير الزور" إلى "حلب" وبالعكس، فعندما وصلت السيارة العسكرية وكانت تقل ضابطين مهندسين فرنسيين برتبة مقدم هما "فانيير" و"فيسكوكي"، وكانا قد وصلا إلى "سورية" من فرنسا لتفقد دوائر الإنشاءات العسكرية الفرنسية في سورية ولبنان ومعهما سائقهما الفرنسي، وجردوهم من أسلحتهم واقتادوهم مع سيارتهم إلى مكان جنوب مكان الحادثة في البادية يسمى"العكيصية"، وألقوا بهم مع سائقهم في أحد الآبار المهجورة حيث لفظوا أنفاسهم الأخيرة بعد أن غنموا أسلحتهم، وكان ذلك في مطلع شهر حزيران /1925/ ثم انسحبوا إلى شواطىء الفرات حيث الغابات والجزر النهرية، علم الفرنسيون أن جثث الضباط موجودة بين الرمال على ضفاف الفرات، خرجت طائرات فرنسية للاستكشاف حيث عثر على السيارة ومكان البئر الذي القي فيه الفرنسيون، وبعد أن علم الفرنسيون بأسماء الثوار وانتمائهم القبلي، تحركت قوة عسكرية كبيرة».
وعن ردة فعل الفرنسيين إزاء ما قام به الثوار قال: «اشتركت في الحملة المدافع والطائرات، وطوقت عشيرة "البوسرايا"، وقامت طائرات فرنسية بقصف منازل العشيرة قصفاً مدمراً، وتهدمت البيوت على رؤوس الأطفال والنساء واشتعلت النيران في المزروعات والبيادر، وهلكت الماشية فكان قصفاً مرعباً ومدمراً والخسائر جسيمة بالأرواح والمادة، كل ذلك من أجل الضغط على الأهالي لتسليم الثوار، وقد سقط نتيجة لهذا القصف بعض الشهداء نذكر منهم، "حنش الموسى العاني"، "علي النجرس"، وامرأة كانت حاملا، ومن الجرحى العشرات الذين أصيبوا بالرصاص وبشظايا قنابل الطائرات».
عندما اقتنع الفرنسيون بأن القصف لا يجدي لجؤوا إلى وسيلة دنيئة فيها الكثير من الخسة والنذالة أشار إليها بقوله:
«بدأ الطغاة يبثون الأخبار بأن الفرنسيين سوف يجمعون نساء الثوار وأمهاتهم وأخواتهم ويعتقلونهم في سجونهم حتى يسلَم الثوار أنفسهم للفرنسيين، وعندما وصل الخبر إلى الثوار وقع عليهم كالصاعقة، إلا أن شرف العربي تهون دونه الأرواح، فخرجوا من مخابئهم وحطموا بنادقهم وسلموا أنفسهم وهم مرفوعو الرأس فسلمت العذارى والنساء من الغدر المبيت، وبعد تحقيق طويل استخدم فيه الجلادون أبشع أنواع التعذيب انتقلت روح أحد الثوار "حسن العبد السلامة" الملقب "الوليقي" إلى بارئها فداء للوطن والشرف والكرامة، كما نفيت أسرة "عيّاش" إلى "جبلة"، وقد صدر قرار النفي في /5 / آب /1925/ من المفوض السامي الفرنسي».
لم يكتفِ المحتل بالنفي بل شكل محكمة عسكرية للثأر من أبطالنا، حيث قال بهذا الصدد: «في الثاني من أيلول /1925/ تشكلت المحكمة العسكرية واقتيد الأبطال إلى قاعة المحكمة وهم مصفدون بالحديد، وهناك وقف المحامي "فتح الله صقّال" للدفاع عنهم دون فائدة حيث اعترف الشجعان بما فعلوه ورفعوا رؤوسهم عالياً في وجه الهمجية الفرنسية، وكانت المحكمة الفرنسية حافلة بكبار الضباط الفرنسيين وبعض أهالي الثوار، واختلت المحكمة ساعتين كاملتين ولما عادت إلى قاعة المحكمة لإصدار قرار حكمها، أقرت بالإعدام على "محمود العياش"، "عزيز العلي العبد السلامة"، "حاج علي العبد السلامة"، "حكمي العلي العبد السلامة"، "حمزة العبد السلامة"، "أسود الحمدان"، "اصلبي المسعود"، "خلف الحسن المحمد"، "احمد الحسين الحسن"، "حمد بن رديني"، وسجن "محمد العياش" و"عبد الله الخلف الإبراهيم" لمدة عشرين عاماً، وفي الخامس من أيلول نفذ حكم الإعدام الصادر عن المحكمة العسكرية الفرنسية رمياً بالرصاص في شمال "حلب" حيث اخترقت أجساد الثوار أربعةً وأربعون طلقة في لمح البصر ليدخلوا في سجل الخالدين مع إخوانهم في بقية مناطق سورية الحبيبة».
"فاروق العيد" من قرية "المريعية " قال: «هذه الملحمة كشفت النقاب عن وجه المستعمر الفرنسي وبشاعة معاملته، واستخدامه النساء والشيوخ الطاعنين في السن كورقة ليضغطوا بها على الثوار لأن العربي شرفه مقدس ولا يرضى أن يهان مع العلم أن الثوار كانوا يعرفون مسبقاً أنهم في طريقهم إلى الإعدام، وقدموا أرواحهم فداءً لنسائهم وشيوخهم وأهلهم».
"أحمد الخليف" من أهالي حي تشرين تحدث بالقول: «كانت هذه المعركة من المعارك الهامة بين الثوار والفرنسيين وأيضاً كانت حصيلة لجبهات كثيرة على المستعمر في مدينة "ديرالزور" وريفها منها ثورة "العنابزة" وثورة "البوخابور"، وغيرها من الثورات التي أرعبت المحتل وتركته يتخبط ويغوص في مستنقعات من دماء جنوده لا قرار لها، وكذلك كانت الثورات عامة في مختلف مناطق سورية».