حين يذكر "عبد الجبار ناصيف" فإن ألوان قوس قزح تشرق في مخيلتك ...وآلاف من الأشرطة والقصاصات الملونة تتطاير في فضائك ...وحين تدخل مرسمه للمرة الأولى سوف تفتح عينيك كالأعمى الذي أبصر بعد سواد, ويحاول مرتبكاً استيعاب الكم الهائل من الضوء الذي لم يعتد عليه وستسأل نفسك كما يفعل ذاك الكفيف المبصر" هل أنا في الجنة" ؟
وهنا ستشعر أن الحديث عن شخصية "عبد الجبار ناصيف" الفنية والإنسانية بشكل دائم لابد ستبعث في جدران مرسمه الإحساس بالغبن, فهي الأخرى على درجة عالية من الحسية وبشيء من الإنصاف حاولeSyria أن يجعل من مرسم "عبد الجبار ناصيف" موضوعاً أساسياً وأن يتعامل معه كما يتعامل مع أي بؤرة ضوئية فنية.
الفكرة أصلاً راسخة, ولم يعارضها أحد يهمني أمره أو له تأثير ما علي, وغير ذلك ليس له فائدة
"e Syria" لاحظ العلاقة الخاصة بين المرسم ورواده, ولكنه قبل استطلاع آرائهم كان لقاؤه مع مؤسس المرسم الوحيد في "ديرالزور" للسؤال عن فكرته, تاريخه, رواده, ماذا أراد منه, وله, فكان لنا معه الحوار التالي :
*متى بدأ هاجس المرسم يلح عليك؟
«هذا الهاجس يولد مع الفنان بالتأكيد, ولا أظن أن فناناً ما لا يحلم بمحترف يمارس فيه ذاته كفنان, ولكن قد تحول دون ذلك صعوبات أكثر بكثير من إمكانية تحقيق هذا الهاجس الحلم, وهذه الصعوبات كثيرة ومتنوعة, بالنسبة لي أحسست أنني قادر على تحقيق حلم مرسمي الخاص, ولم أتردد لحظة واحدة».
*نظراَ للظرف الاجتماعي في تلك الأيام, هل انتابك خاطر أن الفكرة غير قابلة للتحقيق ؟
**«الفكرة غير قابلة للتحقيق أمر مبالغ فيه, لكنها تحققت, رغم كل الصعوبات الاجتماعية والتي كانت وقتها غريبة وكثيرة من قبل الكثير, لأن فكرة مرسم ولفنان تشكيلي فكرة تبدو غريبة, على سبيل المثال, كان هناك أشخاص من مختلف طبقات المجتمع تدخل إليَّ لتسأل ما هذا المكان ؟ ما معنى فنان تشكيلي ؟ وحدث الأكثر».
*من ساعد على ترسيخ الفكرة في ذهنك, ومن عارضها في محيطك ؟
**«الفكرة أصلاً راسخة, ولم يعارضها أحد يهمني أمره أو له تأثير ما علي, وغير ذلك ليس له فائدة».
*الوقت الذي تقضيه بين جدران المرسم هو أكثر من الوقت الذي تقضيه في أي مكان آخر, هل أثر ذلك على حياتك العائلية؟
**«نعم, كأي فنان أصبحت حياتي كلها هنا, داخل هذا المكان, وهذا هو الطبيعي, أما عن حياتي الأسرية, وهذه أهم الأمور, فعندما يكون الفنان – أو حتى الإنسان – حقيقياً وكل ما يحتويه حقيقي لابد أن تؤمن الدنيا بحقيقته هذه, من هنا أقول وبصدق: لم أجد أي صعوبات عائلية بشكل خاص رغم توقع الكثير لذلك, ومنهم من عمل على خلق تلك الصعوبات».
«لا أدري لماذا لم تظهر أي تجربة أخرى, ربما لأن الأمر صعب كما تقدم, وربما لأسباب أخرى, برغم تفهم المجتمع لوجود مرسمي, وقد حدثت تجارب صغيرة انتهت ببساطة, ولا أريد التحدث بهذا» .
*إحدى وظائف المرسم التي أخذتها على عاتقك هو تدريب عدد من شباب وفتيات المحافظة الموهوبين, البعض يعيب على طلابك عدم القدرة على الخروج من عباءة "ناصيف", ما تعليقك؟ .
**«نعم, درس الفن عندي فنانات وفنانون شباب وأطفال, ورسم داخل مرسمي بعض الفنانين, وبالمناسبة أنا لا أتلقى من أي أحد أي أجر, بل أنا أقدم أحياناً كثيرا من المواد للموهوبين لأنني مؤمن أن رسالتي بالمرسم مهمة, وتحقق أهداف عظيمة, و هاتفي لكل من يريد التواصل هو"226148" ، أما الجانب الآخر أعتقد من الطبيعي تأثر أي فنان بآخر, وذلك يحدث في كل مكان من العالم.
ففي تاريخ الفن عندما يلتقي أي فنان بآخر يحدث ذلك التأثر, وهذا أحد أسباب ظهور المدارس الفنية عالمياً, أما الطلبة الموهوبون فطبيعي أن يحدث ذلك, ولكن لفترة محددة, وحين ينطلق الموهوب وبعد أن يحقق مستوى ما لابد أن تظهر شخصيته الخاصة».
*يزور المرسم عدد من الناس لا علاقة لهم بالحياة الفنية والثقافية, يرى البعض أن ذلك يتنافى مع الدور الثقافي الذي يلعبه مرسمك !!! .
**«أنا ابن مجتمع وليس كل أصدقائي ومعارفي وأقربائي فنانين, ولذلك من الطبيعي أن أتلقى مثل هذه الزيارات, ولكنها لا تتعارض مع الفن, ولا تشكل أي ضغط علي أو على أي فنان شاب, يتدرب في مرسمي, بل على العكس، فكثير من الناس البعيدين عن الفن ينجذبون إلي وتبدأ حركة التغير واضحة في السلوك والتفكير والثقافة, وهذا ما جعل المرسم مشروعاً ثقافيا متكاملا واستطاع خلق جو فني ثقافي وأدبي بشكل واضح, وهذا معروف جداً في المجتمع الآن».
*"ناصيف" كفنان هو مشروع جماعي, وليس مشروعاً فردياً, ما مدى الدور الذي لعبه المرسم في تحقيق هذا المشروع ؟
**«أصبح المرسم فيما بعد مشروعا جماعيا متميزا, وقد كان فردياً في البداية, هذه حقيقة يدركها الجميع, وبصراحة جاء ذلك بشكل طبيعي, وبصورة مريحة وغير مقصودة, وأنا كفنان أعتز بأن يكون مرسمي ملتقى لكل ما هو رائع في الفن والأدب والمسرح والصحافة, ومختلف مجالات الحضارة, لأن هذا البلد يحوي بداخله فنانين وأدباء ومثقفين غير عاديين وكبار في تكوينهم, وهذه حقيقة لا يعرفها الكثير, ولكنها واضحة في مرسمي».
eSyria حاول رصد كل مجال من مجالات الثقافة في المدينة وانتقى من رواد المرسم ممثلاً لكل مجال من تلك المجالات ليتحدث عن تجربته مع مرسم "ناصيف" .
الأستاذ "تميم صائب" شاعر وعضو اتحاد "الكتاب العرب" :
«أعتبر المرسم حالة نادرة فهو حميمي إلى أبعد حدود الحميمية، الرسومات على الجدران تكاد تحدث الزائرين و تعكس انفعالاتهم و أهواءهم و قد بدأت علاقتي منذ زمن بعيد بهذا المرسم و لكنها توطدت في السنوات الأخيرة حين جلسنا في أمسية هادئة و بتحريض من الفنان عبد الجبار طلب مني أن أقرأ إحدى قصائدي و كان في السهرة معنا صديقنا الموسيقار عبد الحميد إسماعيل الذي عرفته حينذاك و ما إن بدأت بقصيدتي حتى راح يدندن على عوده مرافقاً قصيدتي، و من حسن الحظ أن الفنان عبد الجبار كان قد شغل آلة التسجيل و راح يسجل هذه الثنائية التي سمعناها في اليوم التالي ولم نصدق جمالها».
ثم تابع مؤكدا: «توطدت العلاقة مع المرسم أكثر فقد كان "عبد الجبار" بحسه المرهف يحس بشيطان الشعر بداخلي فيقوم إلى الخشب و يشد عليه خامة بيضاء و يضعها على المنصب أمام عينيه لتدعوني فأجدني أهرع إليها و أكتب كما لو كنت أرسم و ما زال محتفظاً بهذه اللوحات التي تحمل الشعر لا الرسم.
و في غربتي في الكويت كان المرسم و أصدقاؤه و سهراته تأتي مكثفة إلى ذاكرتي فيشدني الحنين إلى بلدي، و كم ذكرت ذلك في الكثير من قصائدي وكما كان للمرسم الدور الكبير في كتابة مجموعتي النثرية "فراشات ملونة"، المرسم باختصار هو صالون ثقافي شامل و ليس أدبي فحسب وأكاد أجزم أنه أخذ دوراً ً في المدينة أكثر من دور المركز الثقافي و اتحاد الكتاب العرب لأن نشاطات الأخيرين أسبوعية بينما كان و سيظل نشاط المرسم يومياً ففيه دائماً يدور الحديث عن الشعر والفن والموسيقى والنقد والمقالة و فيه أيضاً تلك الحميمية التي ليست سواه».
الأستاذ"وليد النجم" " صحفي": «حين تختصر كل الأمكنة في مكان واحد لابد أن يكون هذا المكان مرسم الفنان "عبد الجبار ناصيف", لماذا؟» .
في زمن تضيق فيه المساحات الثقافية والفنية, يصبح أي مكان للثقافة والفن هو الرئة التي نتنفس منها, ولا أتصور في زمننا هذا, زمن "دير الزور" أن تكون هنالك رئة أكثر اتساعاً من رئة مرسم " أبي حيان" الذي لا يحمل أي عنوان سوى "الأمل بمستقبل ثقافي وفني قادم"».
الأستاذ "ناظم علوش" مدير المركز الإذاعي والتلفزيوني في "دير الزور": «يرتاد المرسم عدد كبير من الشباب في جلسات نقاش بين أدب و فن .
أبو "حيان" أب ومعلم للجميع فكل أديب يسمعه ما يكتب و كل فنان يريه ما يرسم و يقدم النصح للجميع و لطالما ينتابني تساؤل هو : يا ترى كم عدد الذين عبروا من هذا المرسم إلى ما يريدون "بمساعدة ناصيف"».
الأستاذ " أحمد قنبر" فنان تشكيلي :
« كان مرسم "عبد الجبار" نواة لكثير من الشباب منذ عشرين عاما, وكان نافذة أطل منها كثير من الشبان والشابات الفنانين على الفن, ومنبراً من منابر الإبداع, بالإضافة إلى كونه مجمع لقاء للفنانين .
وهذا أمر طبيعي حين يكون من يدير المكان هو "عبد الجبار ناصيف"، و"عبد الجبار" كما أراه هو حس وحلم عميق ورؤية صادقة ومعاناة أليمة ولون سبق زمانه وريشة طرية غضة مترعة».
الأستاذ" طارق عمار" أحد طلاب "عبد الجبار ناصيف" فنان تشكيلي: «ليس بالأمر السهل أن نتحدث عن تجربة فنان و ليس بالسهل أيضاً أن نتحدث عن مكان هو يحدثك عن ذاته، مرسم عبد الجبار!
إنه ليس بمكان عادي و ليس مجرد اسمنت و حجر بل تعدى ذلك ليفجر عذب الثقافة من بين الشقوق و الزوايا و منهلاً لكل من يرتاده, هذا المكان بجدرانه وتضاريس أبجديته استطاع أن يشكل ذلك الطمي الفني والثقافي في داخلي و استطاع أن يرسم معطيات كثيرة لباطن تفكيري و أن يكون خطاً لي في معترك الحياة, ما إن تهبط قدماي درجات المرسم حتى أغوص بأنواع مختلفة في الفكر الإنساني إلى جانب الفن التشكيلي لأجد البصمة واضحة لتأثير ذلك في أعمالي الفنية فيرتقي إحساسي بالعمل الفني ويصبح هاجساً يومياً فاعد اللحظات إلى أن يحين موعد المرسم و الالتقاء برواده ذوي السمات الخاصة و المشتركة و طريقة كل منهم في التلقي و الطرح و المفردات التي يستخدمها كل منهم حول أي قضية تطرح فهذه الطروحات و المختلفة و النقاشات والمفردات الشخصية لرواده-المرسم- على مختلف ثقافاتهم شكلت نسيجاً و سمات أعطت لهذا المكان كينونة خاصة و خلقت حالات روحية و اجتماعية و روافد في مختلف المجالات الثقافية و الفنية و بذلك استطاع هذا المكان –المرسم- أن يكون ملاذاً لكل فنان و شاعر و أديب و إنسان عادي و أن ينتشر إلى السطح ويأخذ مكانه كمعلم من معالم مدينتي"دير الزور الفرات" و يرفد ثقافتها في مجالات شتى فن تشكيلي، أدب، موسيقا ويكون مرجعاً لكل من يبحث عن جذوره و هويته».
ومن الوسط الأسري لهذا الرائع "عبد الجبار ناصيف" كان لقاؤنا مع ولده الأصغر "عبيد" عازف عود وطالب في كلية "التربية الموسيقية" في "حمص" :
«"رب ضارة نافعة" هذه العبارة هي من أحد أهم الأسباب التي جعلتني الأكثر التصاقاً من باقي أفراد عائلتي بمرسم والدي الفنان التشكيلي (عبد الجبار ناصيف)، حيث كان المرض وأنا في السنة الرابعة من عمري، هو ما جعل والدي يبقيني قريبا منه ليلاُ ونهاراً في البيت والمرسم».
ثم أضاف بعد ذلك :
«فتحت عيناي على مرسم مليء باللوحات والألوان والأشد من ذلك كانت لهفة والدي على أن أرسم وأرسم، كنت أرى الفن والجمال والحس الفني والإنساني قبل أن أفهمه، حتى قبل أن تتشكل عناصر الشخصية الكاملة عندي كأي طفل، وهذا ما سمح لمورثاتي الفنية بالظهور باكراً جداً، كان المرسم بالنسبة لي ملاذاً من المجتمع العائلي الرتيب، فالمرسم لا يسمح لي بأن أكون طفلا في مكان عمل والده، بل نواة فنان في مدرسة فنية كاملة، ولم يكن يسمح لأمي بأن تكون زوجة الفنان في مكان عمله، بل سيدة في عالم فنان يعج بالجمال والمشاعر الإنسانية، كان والدي كل مساء يتوقف عن الرسم ويفتح باب زيارة الأصدقاء، فكنت أرى في ذلك الوقت نافذة من العالم الفني الساحر إلى المجتمع الواقعي الذي هو الصورة الحقيقية التي تعكسها مرآة أي فنان، ثم ليلاً كان يتوافد أصدقاء والدي من الفنانين والشعراء والمفكرين، فكنت أرى الفن والأدب والتاريخ والجمال وعوالم فنية بعيدة عن الوصف كما هي بعيدة عن المنال في معظم الأحيان، لم يكن هنالك من مكان مشابه لهذا المكان في المدينة، وهذا ما جعل كل من الفنانين والشعراء والمثقفين و المهتمين يتوافدون بشكل مستمر إلى هذه المدرسة.
وكان وجود والدي في ذلك المكان عرّاباً لكل من عنده بادرة فنية أو موهبة دفينة أو ظاهرة، حيث كان شرط والدي الوحيد مقابل تعليم الشباب هو بقاءهم في المرسم وعدم ابتعادهم عنه طويلاً ، وكنت أرى أنه من وراء ذلك يهدف إلى إغناء مدرسته الفنية وإضفاء التنوع عليها في جميع المعايير الفنية، وهذا ما كان يحدث تماماً، فهي مدرسة أساسها وسبب وجودها إنسان أدرك وفهم وجوده الإنساني وما ينتج عن ذلك الوجود من عاطفة وحس ومعنىً، وكان (ولا يزال) يمتلك الأدوات والمعايير المناسبة لإظهار كل تلك الأشياء وتحويلها من مشاعر ومدركات وتداعيات وأفكار ومعان وأحاسيس وعواطف إلى عالم خيالي فني ساحر يعكس كل ما بداخل تلك الروح الإنسانية.
حيث كنا نحن أفراد تلك العائلة ننهل كل يوم من كافة أشكال الفن والأدب بتنوعها الساحر، وذلك لأن المرسم كان مجتمعاً فنياً كاملاً اتسع واستوعب كل ذلك التنوع الفني، وكان كل ما يعج ويزخر به المرسم من هذا التنوع، لابد وأن ينعكس على منزل العائلة، الذي هو المنطلق الأول والأساسي لبنات أفكار "عبد الجبار ناصيف" في حين كان المرسم هو مرحلة الانتقال والمستقر في الوقت ذاته.
فأقل ما فعله المرسم هو تغذية أطفال وأبناء تلك العائلة بأسمى معاني الروح البشرية فرداً فرداً وكل حسب ما استطاعت إنسانيته».