هو رأي أراد به القول أن لكل منا هاجس لا بد وأن يسير حسب مقتضاه، والفنان أكثر الناس تعبئة للوقوف عند تحقيق هذه الهواجس إلى واقع ملموس، وإن سألته من أنت؟ قال لك وهو يبتسم ابتسامة مشوبة بصوت رجولي: «أنا أشعر أنني إنسان أمتد إلى التاريخ الموغل للبشرية».
موقع eSyria التقى الفنان التشكيلي "بركات عرجة" يوم الثلاثاء 25 آب 2009 في مدينة "حماة" وكان معه هذا الحوار.
** أعتقد أن غياب مسطرة القياس النقدي الجمالي عند المسؤولين عن المعارض؟ وغياب التراتبية بالنسبة لعمر تجربة المشتغلين بالمجال الفني، والمستوى الثقافي والفكري للعارضين؟ هو السبب في ترشيد العمل الفني باتجاه التزيين والتنميق وغياب المضمون الإنساني والإغراق في الشكلانية المكررة والمقلدة لتجارب محلية وعالمية. والبعيدة كل البعد عن الخصوصية الذاتية والمحلية. بدون هوية ولا طعم إلا أنها تشبه أعمال فلان أو علان؟؟.
** في الواقع إن الفنان التشكيلي واقع بين حجري رحى الانعزال والتهميش والموت البطيء من جهة، ورحى المشاركة المذلة وسط غابة من الأعمال البدائية، السطحية، المنمقة، والمزوقة حسب الطلب و(الموضة)، وهذا ما يجعل العمل الفني بحق غريباً، ناشزاً، وبعيداً عن المكانة التي من المفترض أن يلعبها، وفكرة أنه مرتبط بالمجتمعات المخملية، فأرى في ذلك شيئاً من الصواب، فهل تعتقد فقيراً يقتني لوحة ثمنها يفوق دخله السنوي؟ لا أعتقد ذلك.
** كل فنان يرسم لوحة واحدة في حياته، وفي كل ما رسمه ويرسمه، وما يفكر في رسمه، ما هو إلاّ بحث عن لوحة تسكن في خياله، وكثر هم الفنانون الذين خرجوا من هذا العالم قبل أن يعثروا على تلك اللوحة، بالنسبة لي لم أجدها حتى اللحظة، لهذا لا مشكلة لي مع أي لوحة البتة، لذلك إن في حال المخاض علني أقع على تلك اللوحة التي تسكن في مخيلتي.
** في الوقت الذي تقف فيه أمام مشروع لوحة ما، هذا يعني أنك تعرف، أو لا تعرف ماذا ترسم، عندما يكون عندي همّ بناء عمل شعري، موسيقي، درامي، لوني، فيه هارموني، و(كونتراست) أكون عندها أسير باتجاه الوضوح والغموض معاً، فعندما أرسم شجرة فإني أعرف لماذا أرسمها، وماذا يمكن أن تشكل، في الواقع أن أبني بناءً تشكيلياً لا علاقة له الإيماءات ولا الإيحاءات. الهدف الرئيسي أن يحدد الفنان ماهية ما يجب أن يقوم به، فاللوحة المغرقة بالواقعية هي لوحة غير واضحة.
** الانجازات في مجال المدارس لم تعد موجودة، أقلّه على المستوى العربي، وللتاريخ.. الآن لا يوجد مدارس، لقد دمجت كلها في شيء اسمه لوحة، فالفن دخل البلاد العربية في الخمسينيات من القرن العشرين، أي في الوقت الذي انتهت فيه كل المدارس، اليوم يوجد نكهات، وليس مدارس، وأعطيك مثلين على هذه النكهة، ففي العراق هناك فن تشكيلي يشير إلى نفسه متى وقعت عليه عينك، كذلك الأمر بالنسبة للفن التشكيلي في المغرب، والفنانون المغاربة هم الأنشط في مجال البحث، وهذا أمر يسجل لهم.
** يجب أن نقرأ تاريخ كل الفنون، ومنهم تاريخ الفن التشكيلي، كما ويجب أن نعرف كل إنجاز في هذا المجال، فـ "غوغان" سطّحَ اللوحة، بينما عمل "سيزان" على اللوحة التكعيبية، المهم معرفة الفلسفة التي أدت إلى هذا التطور، وهل أنت كفنان مقتنع بهذا التطور، أم أنه أفسد الفن، بعد ذلك تضع نفسك في المكان الذي يجب أن نكون فيه، ويجب على الفنان أن يعي جيداً أين هو، هل في البداية، أم في الوسط، أم في النهاية.
** لكل شكل أو مكان شيء يرفعه عن البقية كي يدخله في حسابات الفنان ويجعل منه مشروعاً للوحات قادمة، وفي المجال التشكيلي توجد مواضيع رافعتها دائمة منها وفيها، كالطبيعة، والبيوت القديمة، أو الحارات التي اندثرت.! فـخذ "الكيلانية" مثلاً بما تحويه من تناغم معماري في إيقاع هندسي فريد، ومجاورة المنازل للنهر، وتداخلها معه في تشكيلة توحي بالأسطورة، أو الحكاية الشعبية، كذلك القباب في الأعلى مع الأقواس المتداخلة، والمعكوس ظلها في الماء، توضّع النوافذ، وترتيب الأحجار غامقة اللون مع الأرضية الفاتحة في ما يشبه ترتيب الألوان في (طبق) القش الذي كان يستعمل أيام زمان، والمشربيات الخشبية المتقدمة عن كتلة الأبنية، وما تعنيه من انفتاح على الضوء والهواء، وبنفس الوقت على العالم الخارجي من الجيران، والمارة، وعلى الشارع والسوق...! هذا المعنى المركب العميق والدائم التأثير من جهة (والذي لا يشتغل عليه الكثيرون)، وغياب هذه الأبنية من جهة أخرى جعل من موضوعها مقبولا عاطفياً لدى المشاهد بدون أي تحفظ. وكلما كانت اللوحة أقرب للفوتوغرافية، كلما كانت مطلوبة أكثر، وإذا حصل وتم (زوزقتها). فإن بطاقة عبورها إلى قلب المشاهد ودغدغة ذاكرته الشبابية، أو الطفولية.. كانت أقرب في التناول.
** بالنسبة لي المرأة هي الهاجس، فأنا لا أنظر إليها إلاّ من ناحية جمالية لها علاقة بالجمال، فالمرأة كالغابة، كالبحر، كأي شيء جميل على هذه الأرض، وهي حقاً جميلة.
** كثيراً ما نسمع أن هناك برامج سينتجها التلفزيون تتناول الفن التشكيلي، ولكن في النهاية يظهر لنا أن هاجس البرنامج والقائمين عليه ليس الفن التشكيلي، بل إنتاج البرنامج ليس أكثر، لأننا من خلال ما نشاهده من هذه البرامج يتضح لنا أن من يشرف، ومن يعمل على المونتاج بعيدون كل البعد عن هذا الفن، وهذا ليس ذنبهم، فنحن نعاني من أمية حقيقية في هذا الإطار، حتى أن الأمية تطال بعض الفنانين التشكيليين أنفسهم.
* والنقد؟ كيف تجده؟
** النقد هو حالة له علاقة بعلم الجمال، ومهمته أن يتناول المادة ويحللها، ويشير إلى مواطن الجمال فيها ويحدد العناصر التي ارتكز عليها الفنان في رسمه للوحة ما، ولكن النقد يبتعد عن مهمته الأساسية حين يصبح عبارة عن حالة تعبيرية تعكس مزاجية الناقد، فتدفعه للقول بأنه يجب، أو لا يجب، وهنا يبتعد الناقد عن وظيفته، وكلامه لا علاقة له بالنقد.
** أنا كفنان تشكيلي أشعر أنني أكثر قرباً من أن أكون إنساناً.
* ما مهمة الفن؟
** الفن وسيلة عالمية لا تحتاج إلى تراجم، ولكن مهمته نقل الناس من حالة الفوضى إلى حالة التوازن.
** كنت أقول دائماً أن الفن ليس للبيع، كنت مخطئاً بذلك، اللوحة التي تبقى عندك تعمل على جعلك راكداَ في عملك، فذهابها عنك يولد فيك طاقة جديدة لصنع لوحة جديدة، فثقافة الفن ليس للبيع، خاطئة، الفن للآخر.
** بيع لوحة ما يجعل الألسن تتناوله بشيء من التهكم، والبعض يقول باع أجمل لوحاته، وآخر يقول لن أبيع هذه اللوحة لأنه تشكل عندي حالة... هذا الأمر يزعجني، ألا يرى الجميع أن كل الفنانين في مجالات أخرى يقبضون سلفاً عما يقومون به، لماذا الفنان التشكيلي متهم لأنه يبيع لوحاته، أليس الآخر يبيع قدراته الفنية، أليس من حق الفنان أن يعيش من فنه كالبقية؟.
** إن المعارض داخل سورية، وخارجها، تتم بشكل غير مفهوم، ولا أحد يدري كيف تنظم وعلى أي أساس، ويبدو أنه لتسويق اسم أو اثنين من الذين يشتغلون في المجال الفني التشكيلي، يجب أن يقام معرض، فتجري الاتصالات بحيث يكون المشاركون أقل مستوى بشكل ملحوظ، أو جادين إلى درجة عدم الفهم، وهكذا بين السطحية الفاضحة، والجدية المملة يتم العرض المدهش للاعبي السيرك المحترفين، من هنا أجد أن هذه المعارض عبارة عن بورصة لرفع اسم على حساب آخرين ربما هم أفضل منه بأشواط.
من الجدير ذكره أن الفنان التشكيلي "بركات عرجة" هو من مواليد مدينة "حماة" في العام 1945 من منطقة "باب قبلي"، كما انه خريج دار المعلمين في "حلب" قسم الشعبة الفنية وذلك في العام 1967، أقام العديد من المعارض الفردية والجماعية داخل سورية وخارجها.