يكاد لا يخلو مرسم من مراسم الفنانين التشكيلين في مدينة "حماة" من لوحة رسمت فيها الناعورة، حتى إن بعضهم خصص الجزء الأكبر من لوحاته لرسم هذا الأثر المعماري الهام الذي ما يزال ينبض بالحياة إلى اليوم.
عن ذلك حدثنا الفنان التشكيلي "عماد جروا" قائلاً: «الرسم هو شعور بالأشياء المحيطة بالإنسان، الاحتكاك بها، لمسها، سماع صوتها، وشم رائحتها، ليس فقط ما تراه العين، بل ما تراه جميع الحواس مشتركة، وبقدر ما نستطيع أن نسخّر من هذه الحواس في عملية الرسم التي تكون العين واليد واسطة فقط إليها، بقدر ما نتفاعل مع الأشياء تفاعلاً حقيقياً ونحس ونحلم بها ونستعملها، نشعر بالحركة الداخلية فيها، الأشياء حتى لو كانت ساكنة هي ليست ساكنة، هكذا يعمل الرسام».
صحيح أن الناعورة واحدة إلا أن تكنيك اللوحة يظهرها أو يغيبها تبعاً للأسلوب الذي يتبعه الفنان
وعن سبب اختيار الفنان الحموي للناعورة كمادة للرسم أضاف "جروا": «الناعورة شكل من جملة الأشياء التي أعالجها كفنان، غير أنها ليست جسماً منفصلاً عن العناصر الأخرى، بل بقدر ما أتفاعل مع الحجر والعناصر المعمارية الأخرى بقدر ما أتفاعل معها، أرى جميع العناصر من خلال تجربتي معها وممارستي لها، ولكن تبقى الناعورة جسماً جميلاً له وقع خاص في ثقافتنا، هي عنصر غني بطبيعته لأنه ينطوي على لون غني وملمس ثري وصوت شجي وحركة لا تتوقف، وإذا قلنا إن الأشياء الساكنة فيها حركة داخلية فكيف إذا تحدثنا عن الناعورة التي هي عنصر فيه حركة مضاعفة».
وعما قصده بالحركة الداخلية للأشياء أوضح "جروا": «تعني أن الأشياء ولو بدت ثابتة أمامنا فإننا وفي محاولة رسمها نشعر بحركة ما فيها، وهذه الحركة هي ما نقوم بتسجيله، وتشبه الإيماءة تماماً».
أما الفنان "مصطفى الراشد نجيبة" فقال: «الناعورة بالنسبة للفنان الحموي هي مادة كأي مادة أخرى، ولكن ما قد يميزها هو الحركة، هي ماء وهي إضاءة، في إحدى المرات رسمت نواعير "البشريات" على أساس أنها تمثل امرأتين وأن الحجرية هي عبارة عن قصباتها، لا يمكن ولا بأي شكل أن أصور الناعورة كما هي بكل تفاصيلها، وإلا لأتيت بكاميرا وقمت بتصويرها فكان ذلك أكثر تفصيلاً».
وأضاف "نجيبة": «الفنان التشكيلي يأخذ ما يريده من الناعورة، فقد تكون قرصاً دائرياً أو منحرفاً أو قد تكون شفافية الماء القادمة مع اللون الأخضر الذي يشتق من تمازج الأسود والأصفر الذي هو اللون "الجوزي"، يمكن أخذ الناعورة ككتلة بسعر الشجرة أو البناء، أنا استعمل الناعورة لتخدم العمل الفني وليس لتسيء إليه من خلال أخذها كجماد، ولكن عندما تدخل حركات الناعورة اللونية والظلال فهي روحانية تحرض الفنان للعمل، فيما عدا ذلك يصبح الفنان عبداً لها لرسمها كما هي».
وأشار "نجيبة" إلى لوحة الناعورة التي رسمها الفنان "سهيل الأحدب": «هو لم يرسمها حرفياً بل أخذها ككتلة لونية مع بعضها ورسمها كعلاقة لونية، ولو أنه رسم ناعورة مجردة لما كانت الناعورة التي رسمها ذات قيمة فنية، فمن المفترض في أي قطعة من اللوحة أن تكون مشغولة حتى تعطي قيمة فنية، بمعنى أن أي قطعة من اللوحة يجب أن يكون لها قيمتها الفنية المستقلة».
الفنان "وائل المصري" قال: «الناعورة هي الأثر الوحيد المتحرك الباقي في العالم منذ آلاف السنين بالإضافة إلى أن صداقتها للبيئة وضخامتها تغري الفنان برسمها وهي معلم أثري هام جداً في "حماة"، الناعورة تعكس الحياة في هذه المدينة فعند توقفها تتوقف الحياة في كل أرجائها».
وأضاف "المصري": «صحيح أن الناعورة واحدة إلا أن تكنيك اللوحة يظهرها أو يغيبها تبعاً للأسلوب الذي يتبعه الفنان».
الفنان "عبد العزيز الطويل" قال: «أنا إنسان تقني أعبث بأشياء يطلق عليها الآخرون اسم فن، وجميع الفنانين كان لهم تجربتهم في رسم النواعير، وتتبع اللوحة شعور كلّ فنان وإحساسه الداخلي، فهو يرسم الناعورة التي هي واحدة، ويشبه ذلك أغنية غناها مجموعة من الفنانين كل له صوته وكل فنان استحب توزيعاً معيناً لألحان هذه الأغنية».
أما الفنان "بركات عرجة" فقال: «الحكاية ليست مجرد دولاب ماء، بل لها علاقة بأساطير قديمة، فهي كانت مصدر السقاية الذي يرتبط بالحكايات كالنهر تماماً، كان هناك اعتقادات أن النهر لا يعطي الخير إلا إذا أعطيته أضحية، هذه الفكرة انتقلت للناعورة، التي إما أن تقتل شخصاً كان يسبح بالقرب منها أو أن يقدم لها الأهالي الأضحية من الحيوانات، هذا الخلط بين الناعورة كوظيفة رفع الماء والسقاية، ومن بين الحكايات الشعبية دخلت على ذاكرتي في الطفولة حيث كنت دائماً مجذوباً ومندهشاً للناعورة، هذا العمق الأسطوري حمل عن الناعورة صفتها الوظيفة، وفي فترة تالية تواجدت الناعورة في المواويل والأغنيات الشعبية (من بعد ما كنت شجرة على ميّ، جابوني لنقل الميّ) حيث يوجد فيها دراما وشعر».
وعن خصوصية دولاب الماء هذا عند سكان "حماة" أضاف الفنان "بركات عرجة": «جميع أهالي "حماة" سابقاً كانوا ينامون على صوت النواعير، فعندما أتى المندوب الفرنسي لم يستطع النوم بسبب صوتها، فأمر بإيقافها ونام، بينما لم يستطع كل أهالي "حماة" الذين اعتادوا على صوتها أن يناموا، كلّ هذا لم يكرس الناعورة كدولاب، بل ربط بين أيام الطفولة والسباحة بالقرب منها إلى دورها المعيشي والنفسي أيضاً».
وقال "عرجة": «عندما تكون في بيئة معينة فلا تكون صاحب خيار أمام أشياء تلامسك، فإما أن تلامسك كفنان بشكلها الخارجي، وإما أن تلامسك بعمقك، وإنتاج الفنان ينعكس بالنهاية بهذا المفهوم، هل هي دائرة وأشكال هندسية أم أنها حكاية شعبية وارتباط بالحياة، هذا ما ينعكس من خلال موقف الفنان من الحياة ومن الناعورة ومن الفن التشكيلي».