على مدى أكثر من ثلاثة عقود كرّس نفسه للبحث العلمي فقط، لم تأخذه المسميات والمناصب والإطراءات وإنما استنزفه فضول الغوص في عمق التاريخ، كانت "دمشق" دائماً هدفه مع أنه تناول العرب والإسلام في ثلاثمئة كتاب،
إلا أن حصة الأسد من هذا النتاج المعرفي البحثي كان لـ"دمشق" شاهدة التاريخ، معلم الإنسانية في أنظمة العلاقات الاجتماعية والتجارية وهي من حملت الرسالة الأولى ونشرتها للعالم أجمع.
من الصعب على الإنسان الحديث عن تفاصيل المراحل أو الأدوار التي مرت بها "دمشق"، ومن هذا المنطلق اتجهنا في فكرتنا لإصدار لمحة عن مرحلة من مراحل مدينة "دمشق" كل شهر
موقع "eSyria" بتاريخ 28/2/2009 التقى مع الأستاذ الباحث الدكتور "سهيل زكار" في داره الذي يعم برائحة الكتب الحضارية والتراثية، والذي حدثنا بدوره عن أهمية رسالة مدينة "دمشق" في التاريخ البشري أجمع قائلاً:
«هناك إجماع على أن "دمشق" هي الحاضرة الأقدم في الصورة المستمرة في التاريخ الإنساني، وجدت فيها الحياة منذ عصور سحيقة قبل التاريخ وبعده وبدون ظلم إنها شاهدة التاريخ الإنساني الوحيد، من خلالها يمكن للإنسان أن يقرأ ويدون ويستطلع كل ما شاهدته الإنسانية من الحياة السياسية الاقتصادية والتنظيمية والتشريعية والدينية،
وهوية "دمشق" كانت دوماً عربية لكنها منفتحة على الإنسانية، لم تتغير هذه الهوية قط عبر عصور طويلة، وتزايدت قوة مدينة "دمشق" وتعاظم دورها العالمي عندما أصبحت حاضرة دار الخلافة الأموية والتي حولت البحر المتوسط إلى بحيرة "شامية" من جديد وأوصلت الإسلام إلى أطراف "الصين" من الشرق وإلى بحيرة "جنيف" من الغرب بشكل أخلاقي وحضاري معطاء، مثلت بالحقيقة ومازالت تمثل قلب العروبة والإسلام والإنسانية وتقوم بهذه الرسالة على أكمل وجه وسوف تبقى هكذا».
كانت الكلمات تخرج من قلبه وكأنه عاصر "دمشق" الحضارة والسياسة والتراث، وبناء على هذا الدور الكبير الذي تقوم به "دمشق" قام "زكار" بإصدار مجلة "الدراسات التاريخية" و"لجنة كتاب تاريخ الأمة العربية"، والذي يركّز في كل شهر على مرحلة من مراحل مدينة "دمشق"، أما الهدف من هذه الفكرة فيتحدث عنها قائلاً: «من الصعب على الإنسان الحديث عن تفاصيل المراحل أو الأدوار التي مرت بها "دمشق"، ومن هذا المنطلق اتجهنا في فكرتنا لإصدار لمحة عن مرحلة من مراحل مدينة "دمشق" كل شهر».
ويتابع "زكار" قوله: «مدينة "دمشق" كانت قديماً مركزاً للدول المستقلة، لكن عام 538 ق. م احتلت من قبل "الفرس" الأخمينية، وفي عام 338 ق. م احتلت من قبل "اسكندر المقدوني"، وفي 46 ق. م احتلت من قبل "الرومان"، وبعد ذلك سيطر "الرومان" الشرق "البيزنطة" على "دمشق" حتى "معركة اليرموك" في عام 635م، حُكمت "دمشق" سياسياً وعسكرياً من قبل عدة الدول، كما قامت بدورها في فترة الإسلامية بحكم هذه الدول حضارياً وثقافياً».
احتفلت مدينة "دمشق" بكونها عاصمة للثقافة العربية في عام 2008 وقدمت الكثير من العروض التاريخية عن معالم المدينة ورسالتها الحضارية، ومن هذه الزاوية طرحنا سؤالاً على "زكار" مفادها هل نجحت "دمشق" في تلك الاحتفالية:
«بتصوري احتفالية "دمشق" عاصمة للثقافة العربية نجحت بسبب الجهات التي كانت تشرف على ذلك، واهتمت بجوانب هامشية أقل فاعلية، ونحن هنا نتمنى أن تستدرك جميع الأخطاء من خلال احتفالية "القدس" عاصمة الثقافة العربية في عام 2009، كانت "القدس" دائماً وستبقى وثيقة الصلة بـ"دمشق"، "دمشق" هي الشام والشام فيها "القدس"، و"بيروت"، و"غزة"، و"حلب"، ما دامت السمة التي تجتمع عليها هذه المدن عربية ومسلمة فليس هناك مشكلة».
"دمشق" معروفة بتراثها وفلكلورها وتاريخها الشهير، فهل بمقدورنا إطلاع الآخرين على هذه المدينة العريقة، عن ذلك يقول "زكار": «هناك أشياء مهمة نحن بحاجة إليها ولدينا باحثين كثر ليساعدونا بذلك، لكننا نعاني في بعض الأحيان من بعض العواقب، ومع ذلك نستفيد من الدروس، وجامعة "دمشق" لديها خطط طموحة في هذا المجال تحاول التعمق فيها».
يرى الدكتور "سهيل" أن من يعمل في تاريخ العرب والإسلام عليه أن يُتقن ثلاثة فنونٍ أساسيّـة هي التّـحقيق، والتّـرجمة، والتّـأليف، وهنا يؤكد: «على المؤرخ أن يتقن الترجمة، وهي هنا التواصل مع الموارد غير العربية، إلى جانب التحقيق وليس فقط نشر التراث، وإنما حصيلة العمل التراثي والترجمة بالتعاون مع المصادر يأتي دور التأليف، ومن لا يتقن هذه الفنون الثلاثة سيصبح هناك ثغرة في عمله».
ربما لـ"زكار" آراء كثيرة في هذا المجال ورأيه مستمد من بيئة حضارية وتراث علمي، وعن واقع باحثي التاريخ في سورية يتحدث بنظرة متفائلة عن المستقبل: «في جامعة "دمشق" هناك مجموعة من الباحثين يحاولون الوصول إلى حقائق جديدة في التاريخ، وتحتاج هذه المجموعة إلى الرعاية والتشجيع ومنح الفرص المناسبة وتأمين المكتبات لهم، فلدينا جيل من الشباب لاسيما ممن سيكونون أساتذة في الجامعات السورية، جميعهم نبتات يانعة وواعدة تحتاج إلى العناية والرعاية، نحاول في جامعة "دمشق" توفير ذلك بشتى السبل، لأن إدارة الجامعة مصممة على رفع المكانة العلمية لهذه الجامعة والتي هي أكثر أصالة من الجامعات الأخرى، بل هي الجامعة الأم لكل الجامعات العربية في "بلاد الشام"، كما "دمشق" حاضرة الشام فجامعتها هي حاضرة الجامعات في بلاد الشام وغيرها».
"زكار" الحموي المولد، والدمشقي الهوى يكمن فيه سر هذا الإبداع، وعن ذلك يقول: «"حماة" و"دمشق" واحدة، فالحمويون في "دمشق" أكثر عدداً من الذين في "حماة"، ربما عملي ومهنتي ودراستي فرضت عليّ البقاء، ولكن تبقى لمدينة "حماة" ونواعيرها رائحة جميلة في قلبي والتي فيها سرّ كتاباتي وأبحاثي».
من خلال حديثنا مع "زكار" تبين أن لـ"حماة" ذكرى وشوق جميل في قلبه، أما عن مشاريعه في التاريخ العربي والسوري والإسلامي يضيف "زكار" ودافع البحث والكتابة تبرقان في عينيه: «الآن أنا أعمل على تتمة موسوعة الحروب الصليبية، وباشرت في ترجمة "التلمود البابلي" إلى العربية، وفي الأشهر المقبلة سأبدأ بتأليف كتاب عن "القدس في التاريخ" وهي عبارة عن عشر مجلدات، كما أن لدي خططاً في تحقيق النصوص التراثية حول تاريخ الخلافة الفاطمية، ومراحل التاريخ الإسلامية الأخرى، ومنذ أيام تفرغت من أعمال المؤتمر العالمي حول تاريخ "بلاد الشام"، وهناك أيضاً خطط لمؤتمرات أخرى في هذا العام لا سيما في "القدس" باعتبارها عاصمة للثقافة العربية، حيث تسلمت "القدس" راية عاصمة الثقافة العربية من "دمشق"، وهناك تحضيرات في المحافظات السورية للاحتفال "بالقدس" عاصمة الثقافة العربية لعام 2009».
انتهى حديثنا مع الباحث والمؤرخ التاريخي "سهيل زكار"، ومن الجدير بالذكر أن "سهيل زكـّار" باحث ومؤرّخ ومحقـّق ومترجم سوري، وُلـِد في مدينةِ "حماه" عام 1936، ومن مؤلفاته:
"أخبار القرامطة"، "مدخل إلى تاريخ الحرب الصليبية" "ماني والمانوية" "مختارات من كتابات المؤرخين العرب" "إمارة حلب في القرن الحادي عشر الميلادي" "الإعلام والتبيين في طروح الفرنج الملاعين" "الانحياز، ترجمة"
"موسوعة الحروب الصليبية" "تاريخ العرب والإسلام" "تاريخ يهود الخزر" "الحشيشية، الاغتيال الطقوسي عند الإسماعيلية النزارية".