إذا كان "المتنبي" مالئ الدنيا وشاغل الناس فإن الدكتور "وجيه البارودي" مالئ "حماة" وشاغلها. فله امتداد في ذاكرة المجتمع والبلد امتداداً قلّ نظيره، فحنت الدنيا عليه تبادله الحب بالحب والوفاء بالوفاء مرددة في كل حين أشعاره على شجن النواعير ونسيمات العاصي. لنتعرف أكثر على عوالم حياة الدكتور "وجيه" التقى موقع eSyria يوم السبت 14/3/2009 بالأستاذ المحامي "معتز البرازي" الذي حدّثنا من خلال أبحاثه قائلاً:
«إن عالم الطبيب المرحوم "وجيه البارودي" عالم رحب وواسع وشامل وهو الحكيم الإنسان، والشاعر الفنان والناقد الواعي والجريء المقدام والعاشق العُمري وشاهد القرن العشرين من عقده الأول إلى عقده الأخير».
وعن نشأة الدكتور "وجيه" وبداياته في مدينته "حماة" قال: «ولد "البارودي" في "حماة" أوائل آذار عام 1906، وأمضى دراسته الأولى في الكتاتيب ومدرسة "ترقّي الوطن" في "حماة" ثم كانت الحرب العالمية الأولى التي أوقفت كل شيء، ومع نهايتها تمّ إرساله إلى "لبنان" ليتابع دراسته في "الكلية السورية الإنجيلية" في بيروت (الجامعة الأميركية اليوم) عام 1918. وأمضى الطالب "وجيه" هناك أربعة عشر عاماً شملت الدراسة الابتدائية والثانوية والجامعية وتخرّج طبيباً عام 1932».
وعن تعامل الدكتور "وجيه" بعد عودته من لبنان مع مجتمعه أجاب: «عاد مباشرة إلى "حماة" وفتح عيادته الطبيّة في نفس العام وبقي يعمل ليلاً نهاراً. في البداية اقتنى درّاجة عاديّة وتعاقد مع بعض الأسر في "حماة" لمعالجتهم دون في النظر إلى عدد أفرادها لقاء أجر سنوي يتقاضاه في آخر العام، مثله مثل الحلاقين الذين كانوا يتبعون نفس الأسلوب في تعاملهم مع الناس. فقد كان يتم استدعاؤه للكشف على المرضى ووصف الدواء وزرق الإبر وتوليد النساء وإجراء الإسعافات الأولية. تطورت الأمور معه فاقتنى دراجة نارية وبقيت لديه حتى أواخر الأربعينيات من القرن المنصرم حيث استطاع اقتناء سيارة خاصة به. وأول إشكال حدث بينه وبين مجتمعه عندما رفع الطربوش الذي كان وضعه على الرأس عرفاً إلزامياً في المجتمع الحموي، حيث خرج الدكتور "وجيه" عن هذا العرف وخلع الطربوش ووضع بدلاً عنه "البرنيطة" ليُجابه بنقد جارح من قبل المجتمع الذي لم يعرف حتى الآن إنساناً تعامل مع مجتمعه في شتى المناسبات والأحوال مثل الدكتور "وجيه البارودي" فمن قمة المديح إلى ذروة الهجاء فقد أراد أن يجرب حظه في السياسة بناءً على اعتماده أن شعب "حماة" الذي مدّ له يد المساعدة طبيّاً وأدبياً ومعنوياً ومادياً سيقف معه في ترشيحه للمجلس النيابي عام 1949 فلم ينجح، فقال:
«يعزُّ عليّ هجوك يا حماة/ ولكن الصفات هي الصفات
سلي ينبئك هذا الليل عني/ وساعات النهار المحرقات
وأطفال بعثت بها حياة/ سيلحقها الجميل الأمهات
وكان بين "وجيه" و"حماة" مساجلات ومناقرات ومهاترات لكنه في الوقت ذاته لم يبخل في مديحها، وعلى الرغم مما لاقاه منها ومن شعبها تبقى بلده ومسقط رأسه ويبقى العاشق لها ومرتع طفولته، فقال في ذلك:
وفي حماة مقيم لا أغادرها/ شاطئ البحر عندي ضفة النهر
فيها النواعير والعاصي و/ شاعرها ثلاثة ميّزتنا حكمة القدر
والمعروف عن الدكتور "وجيه" جمال طرائفه فذكر لنا الأستاذ "معتز" بعضها قائلاً: «قال الدكتور "وجيه" واصفاً نفسه (أنا أقدم طبيب في "حماة"، وأقدم سائق في حماة، وأقدم شاعر، وأتعس عاشق). كذلك كان له طرفة حين أتى إليه ابن عمه يطلب منه بعض أبيات الشعر في رثاء عمه المتوفى فطلب الدكتور "وجيه" مهلة ليكتب له الرثاء، ولكنه لم ينفذ ذلك لا في اليوم الأول ولا الثاني وفي اليوم الثالث ونتيجة إلحاح ابن عمه كتب له هذه الأبيات قائلاً:
تُكلفني حزناً ونفسي طروبة/ وروحي تأباه وأنت تريد
وهل يألف الأحزان من كان/ عاشقاً تجود له أحبابه ويجود
فلا ترجو مني وصف حزن ٍ لأنني/ طروب والعهد بالبكاء بعيد
ومن طرائفه أيضاً التي تأخذ طابع الحكمة الطبية قوله (من يأكل تازا ما بيتأذا). (نظّم الواصل، وفرّغ الحواصل، تبرى المفاصل). وطرفة أخرى تدلل على مدى استخدامه للعلاج النفسي في مداواة مرضاه (حيث طُلب إلى منزل امرأة على وشك الولادة ولكنها متعثرة، شاهدها الدكتور "وجيه" فطلب مباشرة من الأهل طبلة (دربكة) وبدأ بالنقر عليها والرقص مع الصبايا مما أدى إلى غرق المرأة الولادة بالضحك وأنجبت مولودها دون أن تشعر بذلك، ولدى سؤال الدكتور "وجيه" عن سبب فعلته هذه أجاب: إن المرأة خائفة ومتشنجة وهذه الحالة لا يفكها إلا الضحك أو الفزع، لم أستطع على الثانية فقمت بالأولى). كانت طرائفه كثيرة ككثرة الناس التي عالجها وتعامل معها».
وعن شعر الغزل الذي طغى في أشعار الدكتور "وجيه" حدثنا الأستاذ قائلاً: «يتميز شعر "وجيه" أغلبه بالغزل، فقد كان شاعراً هاوٍ لا محترف، لديه أربعة دواوين تحتوي الكثير من قصائد الغزل وله قصيدة مشهورة بعنوان "الصب الزائر" يقول فيها:
أرى قدميّ نحوك تحملاني/ بروحي لا بعقلي تمشيان
ولو أني ملكت زمام نفسي/ أهبت فلم أبرح مكاني
فقد كان معجباً بالمطربة "ميادة الحناوي" ويحمل صورتها معه يريها لزواره ومرضاه معبراً عن حبه لها، وكان يرفض معاينة كل من يقول له (أنا لا أحبها) فكتب قائلاً:
ميادة للقلب ينفذ صوتها/ فالسامعون متيمون سكارى
ميادة أعجوبة الدنيا سأفتنها/ وأرسم مجدها أشعارا
وكان معجباً أيضاً بغزل الشاعر "نزار قباني" ولكن كان له مأخذ عليه بأنه شاعر الحب فقط، أما الدكتور "وجيه" فهو شاعر العشق وفي ذلك كتب يقول:
ونزار يهوى لا حدود لحبه/ ملك له كل الملاح جواري
لا يعرف العشق الذي أنا غارق/ في بحره فنجا من الأخطارِ
العشق غير الحب موهبة لها/ رهبانها والحب للأغرارِ
وبعيداً عن الغزل كان الدكتور "وجيه" يحلو له سماع قصائد بعض الشعراء منهم الشاعر "المتنبي" وكذلك الشاعر "عمر أبو ريشة"
وعن المراحل الأخيرة التي عاشها الدكتور "وجيه" قبل وفاته حدثنا يقول: «في مراحله الأخيرة حيث اقترب من التسعين فترهّل الجسد وأزفت النهاية، وبعد أن تهتكت شبكية عينيه وازداد ضعف سمعه وأضحى عزمه ضعيفاً أنشد يقول:
أمشي إلى غايتي في منتهى التعب/ كأن ساقيّ قضباناً من الحطب
فإن أكلت فأكلي جدُّ مختصر / من الخضار وحبات من العنب
وقد فارق الشاعر "وجيه البارودي" الحياة في الساعة الثانية من صباح يوم الأحد 1131996 ولسان حاله يردد:
أصلي لا أمل وفي صلاتي/ دعاءٌ يمحق الذنب الرديّا
ولا موت أخاف لأن ربي/ سيلقاني بجنّته حفيّا
وهكذا مضى سيد العشاق وسيد الأطباء وسيد المصلحين الدكتور "وجيه البارودي" بعد أن ملأ دنيانا بالرحيق والعبق الذكي.
سيبقى صوته الرنان يدوي في كل مكان وزمان معلناً خلوده الأبدي السرمدي من خلال منجزات نضاله الاجتماعي وشعره العذب الندي الذي ما ذكرت هو نقطة من بحره، إضافة إلى طبّه المتفوق السامي وخبرته العميقة الطويلة وحبه العجيب النادر مرددين في نهاية المطاف ما قاله في هذين البيتين:
أنا حيٌّ بمنجزات نضالي/ وبشعري الذي يظل طريّا
وبطبي وخبرتي وحبي/ سوف أبقى مخلّداً أبديّا».