إلى مدينته "سلمية" عاد محملاً في نعش، وهو الذي أبصر النور فيها في العام 1928، رحل "علي الجندي" وهو الشاعر الذي عرف كيف تصاغ الكلمة، فكان صاخباً رغم البدء الذي كان هو الصمت، هو شاعر من جيل لا يعترف بالقوانين غير أنها تأتي لصالحه، فكتب لغته التي أحبها، وأعجب بها الكثير من رواد الأدب، 81 سنة كانت كافية لتجعله يعيش أبداً، وهو الذي قال في حق نفسه: «آه إني كلمة.. آه إني كلمة.. لست شيئاً، غير أني كلمة.. إنني أمتد، أمتد، أغالي في انتشاري
إنني أورق، أنساح، أواري».
موقع eSyria حضر تشييع جثمان الشاعر العربي الكبير "علي الجندي" في مسقط رأسه "سلمية" يوم السبت 8 آب 2009. بحضور شخصيات أدبية وسياسية وشعبية، واستطلعنا رأي البعض منهم.
يقهقه "ممدوح عدوان" قائلاً: (متْ الآن وسأكتب عنك قصيدة). يردّ "علي الجندي" بضحكةٍ صفراء: (متْ أنت، متْ قبلي، وسأكتب عنك ديواناً
فالتقينا الروائي "نبيل سليمان" وسألناه عن "علي الجندي" وماذا يريد أن يقول في يوم تشييعه، فرد بعين تكاد تدمع، غير أنها تماسكت بعنفوان الرجال، فقال: «الآن؟.. أنا عاجز.. لا أستطيع أن أقول كلمة واحدة، ربما غداً أو بعده أستطيع البوح، لكنني اليوم وأنا أسير في جنازته... في "اللاذقية" يبعد عني ثلاثمئة متر... (فترة صمت) انتهى اللقاء».
يحكى عن موقف بينه وبين الراحل "ممدوح عدوان" حول من يموت قبل. النص كما ورد يقول: «يقهقه "ممدوح عدوان" قائلاً: (متْ الآن وسأكتب عنك قصيدة). يردّ "علي الجندي" بضحكةٍ صفراء: (متْ أنت، متْ قبلي، وسأكتب عنك ديواناً».
والتقينا الدكتور "محمد صادق الدبيات" رئيس جمعية أصدقاء "سلمية" الذي نعى الشاعر الراحل وتابع يقول: «"علي الجندي" قامة كبيرة من قامات الشعر العربي، نحن اليوم نفقد شاعراً كبيراً بعد أن فقدنا قبل ثلاث سنوات شاعراً آخر هو "محمد الماغوط"، في جمعيتنا كنا قد كرمنا الشاعر الراحل في العام 2007 ربما لأننا سمعنا بمرضه فأحببنا أن نكرمه في حياته، وقد كان سعيداً بهذا التكريم حتى أنه مكث لفترة ليست بالقليلة إثر ذلك».
أما في سيرته الذاتية فقد تخرج "علي الجندي" في جامعة "دمشق"ـ قسم الفلسفة عام 1956 عمل في حقل الصحافة الثقافية ما بين "دمشق" و"بيروت"، كما وفي حقل الترجمة عن الفرنسية، وفي الستينيات عمل مديراً عاماً للدعاية والأنباء. وكان من مؤسسي اتحاد الكتاب العرب عام 1969، وهو عضو جمعية الشعر، صدرت له الدواوين التالية: (الراية المنكسة- في البدء كان الصمت- الحمى الترابية- الشمس وأصابع الموتى- النزف تحت الجلد- طرفة في مدار السرطان- الرباعيات- بعيداً في الصمت، قريباً في النسيان- قصائد موقوتة- صار رماداً- سنونوة للضياء الأخير).
وفي موته يقول القاص "محمد عزوز" الشخص المقرب مما كتبه الشاعر الراحل "علي الجندي" فقال: «إذا كان "محمد الماغوط" ملك النثر، فإن "علي الجندي" ملك التفعيلة، لكن الإعلام لم يعطه حقه، خاصة وأنه من الشعراء الستة الذين غيروا في النمط الشعري العربي، رحم الله "علي الجندي"».
أجاب الراحل "علي الجندي" عن سؤال يخص البكاء فقال: «نحن نبكي كي ندافع عن وجودنا الهش..».
والتقينا الأستاذ "رومل القطريب" رئيس جمعية العاديات في "سلمية"، الذي قال في رحيل الشاعر "علي الجندي": «من جديد يخسر العرب عموماً وسورية خصوصاً، و"سلمية" على وجه التحديد قامة أدبية كبيرة لها شأنها الثقافي الهام والمؤثر، لا يسعنا في هذه اللحظة إلا أن نطلب لروحه الرحمة».
والتقينا الأستاذ "نضال الماغوط" الذي اعتبر أن الشعر يفقد قامة من قاماته الكبيرة، ويضيف: «يبدو أن الشواغر باتت كثيرة، فما من قامة ترحل ويأتي البديل، ولن أذكر بعض الشعراء الذين حاولوا شغل الشاغر إن كان شاغر "الماغوط" أو "الجندي" هذا اليوم... نحن في أزمة شاغر».
موقع eSyria يشاطر الأمة العربية، والشعب السوري، والساحة الشعرية حزنهم على فقدان الشاعر الكبير "علي الجندي" ويقدم لقراء الموقع هذه القصيدة والتي تحمل عنوان "أعمى البصر، وأعمى البصيرة" وفيها يقول: «صدقتَ، أنا الأعمى وإن كان لي نظر
يـكاد يرى المخبوءَ في باطن الحجر
وأنـت بـصيرٌ تلحظ الشيءَ واضحاً
بـعينِ قـطاميّ، وإن خـانك البصر
ولـيس الـعمى أن تفقد العينُ نورها
ولـكـنه نـورُ الـعقول إذا اسـتتر
وكـائن تـرى أعمى من الناس بيننا
ومـقلتُه لا تـشتكي الـطولَ... والقصر
شـهدت عـلى نفسي بأني أخو
عمىً وإن فـي كـنتَ شـك أتيتُك بالخبر
فـلو لـم أكـن أعـمى لما بتُّ وارداً
مــواردَ لـلآمال مـذمومةَ الـصَّدَر
ولـو لـم أكـن أعمى لأدركتُ
أنني أدور بـسوق لا تـروج بـها الدُّرر
ولـو لم أكن أعمى لما عشت ساخطا
ولي من خيالي الزهرُ والكأسُ والوتر
وحولي عذارَى الشعر يسبحن في السنا
ويـرقصن في الوشي المنمنم والحِبَر
كـواعبُ لا أرضـى بـهن كـواعباً
يَـصُلن بسحر البدو، أو فتنةِ الحَضَر
فـيا أيها المحجوب عن رؤية الورى
وعن رؤية الدنيا، حُجبت عن الضرر
عــزاءَك! إن الله أعـطاك فـطنةً
وأعـطاك فـكراً لم يشُب صفوَه كدر
وأعـطاك نـوراً، فـي فـؤادك نبعُه
يـريك وراءَ الـغيب مـا سطَر القدر
وأعـطاك ألـحاظاً تـسمى (أنـاملا)
ســواءٌ لـديهن الأصـائلُ والـبُكَر
وأعـطاك حـسَّا رقَّ، حـتى كـأنه
دموعُ الهوى العذري، أو نسمة السحر
وغـطَّى على عينيك أن تبصرا الذي
بـه فَـدَيت عـيناي من هذه الصَّوَر
فـرؤيةُ بـعض الناس شرٌّ من العمى كـأن الـذي يـلقاه يـوخِز بـالإبر
يـعيش عـلى الـدنيا شـقاءً لأهلها
ويـوم يـقومُ الـناس تشقى به (سقر)
أعـيذك أن تـأسى عـلى مـا فقدته
فـما هـو إن روَّيـت فيه بذي خطر
فـربَّ ضـرير قـادّ جيلا إلى العلا
وقـائدُه فـي الـسير عُودٌ من الشجر
وكـم مـن كـفيف في الزمان مُشَهَّرٍ
لـيـاليه أوضـاحٌ، وأيـامه غُـرر
إذا حـل نـورُ الله فـي قـلب عبده
فـما فـاته مـن نـور عينيه محتقَر
لـقد طـبَّق الـدنيا (الـمعريُّ) شهرةً
وسـارت مسيرَ الشمس ذكراه والقمر
وعـمِّـر فـيـها مـبصرون كـأنهم
هـواناً على التاريخ ليسوا من البشر
فـلا تـحسب الـعينَ البصيرةَ مغنما
لـمن ليس ذا قلب، وإن زانها الحور
أخـي يـا بـصيرَ القلب، خير تحية
وغَـفْر ا لأعـمى القلب أذنب واعتذر».
مات الجندي وخمد اللهب، فأي الشيئين باقٍ في زمن لا يوقد اللهب.