يبدو لك من الوهلة الأولى أنه صعب المراس رغم هدوئه، لكن بريق عينيه يخترق وجدان من يحب، أرادها عزلة وانفراداً عندما قرر الاستقرار النهائي في قريته التي ولد فيها، ففيها من الوقت ما يكفي لمزيد من الإبداع، إنه الشاعر "طلعت سفر" ابن "سلمية" الذي أعطاها حبه وقلبه، وما زالت في قلبه كقريته "جدوعة" التي تبعد عنها مسير 25 كيلو متراً.
موقع eSyria زار الشاعر "طلعت سفر" يوم الأربعاء 12 آب 2009 في قريته "جدوعة" وكان معه الحوار الآتي:
كالشيب.. أقدام القفار البيض تزحف في مفارقها.. وظلُّ الخضرة المغناج.. يرحل كالشباب.. لبستْ خلاخيل الجفاف.. وطوقت خصراً بزنار الخرابْ.. عَطِلَتْ.. فلا حلي بلبتها.. ولا ورد بوجنتها.. ولا في الكف يشتعل الخضاب.. لم تحنها الأيام من تعبٍ.. ولم تمشِ السنون على جبين السمح من كبر.. وسال الناهدان.. وأمس قد كانت كَعابْ.. ذبلتْ زهور النعيمات.. وجفّ في فمها الرضابْ.. أيامها اتكأت على الحرمان.. واعتلّت لياليها.. فلا أنس ولا سمر.. فألبسها زمان الجدب وحشته.. ورشّ على محاجرها اغتراب.. محبوسة بيد السنين الشهب في أعماق غربتها مع الأحزان... والجدران من سَهَدٍ.. وقد بُحّتْ.. وأتعبها الصراخُ.. ولا جوابْ
** معظم كتاباتي في الشعر العمودي، ولكني غير متعصب له وأحب أن أكتب شعر التفعيلة، والقليل من قصائد النثر، ولكن المؤسف أن شعر النثر بات مطية فتسلقه الكثير ممن لا يمكن أن نطلق عليهم صفة شاعر، ومع هذا أخذ البعض منهم مكاناً لا يستحقه، ولكن أشياء أخرى ساعدته على ذلك.
** هناك نظم، وهناك شعر، والنظم هو قالب، أما الشعر ففيه حرية القوافي تنساب انسياباً، وضروري أن يكون الشاعر ناظماً، ولكن ليس بالضرورة أن يكون الناظم شاعراً، وقالب الشعر العمودي ليس سميكاً بل فيه كل الرقة التي تدعو الشاعر الحقيقي لولوجه بكل راحة واطمئنان، محققاً الرؤيا التي يريد إيصالها.
** ما يشدني في الشعر هو أنه يحاكي الوجدان الإنساني، وأنا ممن يكتبون الشعر الوجداني، ولا أغفل الشعر القومي، والهاجس الإنساني لأنه حامل لهموم الناس ومعاناتهم.
** لا زال الشعر ديواناً نفتخر به، وإن فقد بعضاً من مكانته في الفترة الحالية، ولكنني متفائل بعودته إلى المكانة التي حظي بها منذ قرون، من هنا لا أتفق وأصحاب هذا الرأي، بل أدعوهم ليعملوا على أن يبقى الشعر ديواناً للعرب، وإن بات يلوح في الأفق بعض الآراء التي تضع الرواية مكان الشعر، وأنها باتت الديوان العربي الحديث.
** لا أؤمن بالكتابة عن الواقع، والخيال هو عالمي الذي أنهل منه صوري الشعرية، والكتابة التي لا يعتمد كاتبها على خيال المبدع، فإنه يحكم على عمله باليباس، لذا لن يعيش طويلاً، بالنسبة لي، ما كتبته لا يعتبر واقعياً.
** الحزن والمرأة هما الموضوعان الرئيسيان اللذان أكتب عنهما بشكل دائم، بالنسبة لي معظم ما أكتبه من شعر يدور حول الحزن، وكذلك المرأة، لأن المرأة تأتي بالحزن، بقربها، وبهجرها، والمرأة عند الشاعر بعيدة دائماً، وإذا لم يكن هناك من امرأة في حياته، فإنه سيخلق أنثاه في مخيلته، ومن خياله.
** كان يمكن لها أن تجتمع فيما مضى من الزمن، أيام العمل السياسي، والوظيفي، ولكن متى جئت قريتي مستقراً فيها، شعرت أن لا شيء في العالم يمكن أن يجعلني أعيش هذه المتناقضات التي ذكرتها، هنا مملكتي الهادئة، لا أحد يعكر صفوي أبداً.
** هناك طقوس خاصة لا بد من توفرها كي تعطي الشاعر الفرصة الكافية لكتابة ما يجول في مخيلته، وأنا أجد ضالتي أثناء مطالعاتي، تبدأ فكرة قصيدة كبقعة الحبر تتوسع قليلاً، قليلاً.. ثم أضع لها بداية ثم أختمها فتتحول إلى قصيدة.
** غالباً ما يحب الشعراء العزلة والوحدة، كما أنهم لا يحبون مخالطة الناس، والشعر يأتي ويذهب كأي زائر خجل، وبسرعة يذهب كسرعته في المجيء، فالوحدة عالمي التي أحياها بسعادة.
** لو قلت لك أنني لم أشعر بجرح ما طوال حياتي، فقط جرحت بوفاة شقيقي "سليم" كنت حينها في الخامسة عشرة من عمري، وكان هو في العشرين، حياتي بدأت باليتم فقد ماتت والدتي وعمري خمس سنوات، أمي التي لا أذكر وجهها إلا وهي مسجاة على فراش الموت والنساء حولها ينتحبن، وأخي الذي مات شاباً يافعاً بفعل الشمس.
** أحلم بمملكة للشعر.. وأقول لو أنني مسؤول لفتحت مدرسة للشعر مهمتها تقديم كل الخدمات (مأكل- مشرب- منامة) وحتى الراتب الشهري، فقط مهمته كتابة الشعر.
** بطبعه الشاعر يحب الوحدة، والوحدة لا تأتي إلاّ بالفقر، والشاعر لا يأخذ مكانه الطبيعي في المجتمع مع أنه نصف نبي كما قيل.
** أكثر ما يزعجني هم المتسلقون الذين استسهلوا الشعر الحر فاختلط الحابل بالنابل، ومما ساعد على ذلك وسائل الإعلام بتنوعاتها، والتي تساهم في توسيع الهوة بين الشاعر والشعر.
** بعيد كل البعد عنها، ولم أتعامل بها، حتى جهاز الهاتف المحمول لا أحمله في جيبي.
** في الوقت الحالي منكب على قراءة "ذاكرة جسد" لـ "أحلام مستغانمي" ورأيت في هذه الرواية قصيدة شعر مكتوبة على كل البحور هذه البحور هي: بحر الحب- بحر الجنس- بحر الإيديولوجيا- بحر الثورة- بحر الحزن، بمناضليها، ومرتزقيها، وملائكتها، شياطينها وأنبيائها، وسارقيها، هكذا وصفها "نزار قباني" وأنا أؤيده بالمطلق.
** لم أندم على قصيدة لأنها لا تحمل في طياتها شعراً جيداً، ولكني ندمت على قصيدة لأنني نشرتها ولم أشارك بها في مسابقة أدبية، كانت تستحق أن تشارك، إنها "طريق الآلام".
** هناك بيتان مختلفان، الأول يقول:
متى ينقضي الهجر الممدد بيننا/ وينزاح عن وجه الوعود ستار
أما البيت الآخر فيقول:
يا عارياً تخلع النهار غربتها/ فيه وتلبس من أثوابه السحب.
** هي كل حياتي، ببيوتها المتواضعة، وأهلها البسطاء، بمصطبة الدار التي نرتاح عليها، هي امرأة تحتاج ليد تمسد شعرها، تداعب خدها، تحنو عليها، هي أم تستحق البر بها.
** كانت مادة لإحدى قصائدي، ومما قلته فيها:
تلهو بأذيالها الأنسام باردة/ تضفي مجامر قلبي حين يحترق
ينام في حضنها الجوري مبتهجاً/ ويحتمي آمناً في ظلها الحبق
كم بعثرت يدها ما ألمّ من تعب/ وخاطه من ميادين الصبا نزق
الجدير ذكره أن الشاعر "طلعت سفر" هو من مواليد "سلمية" في 11 تشرين الثاني 1938، متزوج من ابنة عمه، ورزق منها بستة أولاد مناصفة. هو عضو اتحاد الكتاب العرب، وله من الدواوين سبعة، وحاز على عدد من الجوائز، وله مشاركات عديدة في مهرجانات متنوعة، وأمسيات مختلفة.
ونقدم مقطعاً من قصيدة "تغريبة للحزن" خص بها ضيعته "جدوعة" وهي من ديوانه الأخير "حمائم الشجن" وفيها يقول:
«كالشيب.. أقدام القفار البيض تزحف في مفارقها.. وظلُّ الخضرة المغناج.. يرحل كالشباب.. لبستْ خلاخيل الجفاف.. وطوقت خصراً بزنار الخرابْ.. عَطِلَتْ.. فلا حلي بلبتها.. ولا ورد بوجنتها.. ولا في الكف يشتعل الخضاب.. لم تحنها الأيام من تعبٍ.. ولم تمشِ السنون على جبين السمح من كبر.. وسال الناهدان.. وأمس قد كانت كَعابْ.. ذبلتْ زهور النعيمات.. وجفّ في فمها الرضابْ.. أيامها اتكأت على الحرمان.. واعتلّت لياليها.. فلا أنس ولا سمر.. فألبسها زمان الجدب وحشته.. ورشّ على محاجرها اغتراب.. محبوسة بيد السنين الشهب في أعماق غربتها مع الأحزان... والجدران من سَهَدٍ.. وقد بُحّتْ.. وأتعبها الصراخُ.. ولا جوابْ».