مازالت أشعار الشاعر الراحل "سعيد قندقجي" تتردد على ألسنة الكثير من قرائه ومحبيه وهي التي نظمها كقصص شعرية ساخرة جمعت بين الحكمة والنوادر الطريفة بآنٍ معاً.
من تلك القصص الطريفة قصة "الشوارب" التي تحدث عنها الأستاذ "أحمد عكيدي" في كتابه "صور فكاهية من الأشعار الحموية" قائلاً: «في أوائل سبعينيات القرن الماضي جاء أحد مدرسي اللغة العربية من محافظة سورية أخرى مع زملائه لتصحيح أوراق شهادة الدراسة الثانوية وكان شاربا هذا المدرس عجيبين يذكران بشوارب المغول والبرابرة الأولين في كثافتهما وتهدلهما على شفتي صاحبهما فما كان من شاعرنا "قندقجي" إلا أن يصور هذا الموقف بلقطات طريفة قال فيها: «لك شاربان ولم أزل في رحلة من شاربيك على جناح خيالي/ متهدلان يمر من تحتيهما جيش التتار ولا يمر ببال/ جلسا عليك القرفصاء كأنما وجدا على شفتيك خير مجال/هي قسمة ضيزى شواربك التي طالت وعقلك في طريق زوال».
أهو الشعر فليكن هاجس الشعر صلاةً كأطهر الصلوات/ أهو الحلم يا زغاريد حلمي/ أيقظيني لعل فيك نجاتي/ ما خُلقنا لكي نموت ولكن/ لنضيء الشموع باسم الحياة
لإلقاء المزيد من الضوء على حياة الشاعر الحموي "سعيد قندقجي" موقع eSyria التقى ابنته السيدة "هلا سعيد قندقجي" التي حدثتنا عن والدها قائلة: «ولد "سعيد بن عبد الله قندقجي" في مدينة "حماه" عام 1931 ونشأ في حي جورة حوا أحد أحياء مدينة حماه والتي عاش فيها وتلقى تعليمه بمدارسها ثم انتسب إلى كلية الآداب بجامعة دمشق وتخرج في قسم اللغة العربية عام 1956، عمل مدرساً في حماه وحلب ثم مديراً لإحدى المدارس بحماه ومن ثم مديراً للمركز الثقافي فيها، أعير بعدها للتدريس ضمن البعثة التعليمية السورية إلى "الجزائر" وبعد انتهاء إعارته عاد مديراً لمدرسة ثانوية، تفرغ بعدها لرئاسة فرع اتحاد الكتاب العرب في مدينة "حماه"».
والتقينا الشاعر وعضو اتحاد الكتاب العرب "عبد الوهاب الشيخ خليل" الذي تحدث عن صديقه الشاعر "قندقجي" فقال: «أجاد "سعيد قندقجي" في كتاباته الشعرية والنثرية وحملت الكثير من قصائده عمق المشاعر والعواطف التي كانت تفيض في نفسه، وأبرز ما كان يميزه صوته الجهوري وإلقاؤه الجميل فكان سيد المنابر واختص بناحية انفرد فيها عن غيره من الشعراء الذين عاصروه وهي التصوير الكاريكاتوري في أشعاره فكان يصف ما يريد وصفه ويخرج بنتيجة استجابة لما يريد ويصور المشهد تلو الآخر حتى تخرج للوجود قصة شعرية متقنة في ألفاظها وتراكيبها تشد القارئ لها منذ البداية حتى النهاية، تميز الشاعر "قندقجي" بطرفه وكان بينه وبين أصدقائه من الشعراء حوارات وجدالات شعرية لطيفة لا تخلو من روح الدعابة التي كانت لديه، ومنها رسالة قام بإرسالها لي من "الجزائر" عاتبني فيها على تقصيري في مراسلته قال فيها: «فيا أبا الخير يا من كان يؤثرني/ بحبّه كيف ترميني بإهمالِ / أغرّك الدهر إذ أصبحت منتخباً / الحمد لله إن لم تنتخب والي».
فأجبّته على تلك القصيدة بقصيدة اعتذرت من خلالها عن ذلك التقصير قلت فيها: «أكبرت حبك أن يرمى بإهمال/ فأنت مني هوى قلبي وآمالي/ أم الفداءِ وأفديها وما فعلت/ فما أرادت لهذا الأمر أمثالي/ سعيد يا نبعةً للحب وارفة/ يا رنة الشعر من إيقاع شلالِ».
ولإزاحة الستار عن التجربة الشعرية الغنية للشاعر" قندقجي" التقينا بالدكتور "موفق السراج" أستاذ اللغة العربية في "الجامعة الوطنية الخاصة" الذي حدثنا عن شاعرنا قائلاً: «كانت ولادة الشاعر "سعيد قندقجي" في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي في مدينة "حماه"، وبدأ كتابة الشعر في مرحلة مبكرة من عمره عندما كان في المرحلة الإعدادية والثانوية أواخر الأربعينيات، فنشر قصائده الأولى في المجلات المدرسية، وصار نشاطه الشعري مثار جدل وحوار بين مدرسيه وزملائه الذين تابعوا معه الدراسة الجامعية في دمشق في الخمسينيات ومنهم "جورج عبود" و"عبد الحميد مختار" و"مروان الإمام" و"محمد منذر الشعار" وغيرهم. وكان الشاعر رحمه الله وهو في الغربة التي عاشها داخل الوطن أو خارجه يغطي تلال تلك الغربة بقصائد الطرافة والفكاهة فلا يفلح في مسعاه، ويرتد خائبا إلى قلمه يبثه شكوى القلب المعذب الذي رافقه رحلة الشعر والكتابة والحياة مداوياً جراحه الداخلية، أمام لوحات أدبية تصور الأمل المعقود على عزة شعب ونهضة أمة، لكن تلك اللوحات انتهت برحيله المفاجئ قبل الأوان».
وعن طبيعة علاقته بمدينته "حماه" يضيف الدكتور "سراج": «حيثما ارتحل شاعرنا تجده حاملاً وطنه، وحبه لأهله يكتب فيهما أجمل القصائد التي تجسد الأصالة، والصدق، وعمق الانتماء. وحين زار مدينة "كالكوتا" الهندية موفداً من اتحاد كتاب العرب كتب قصيدة قال فيها: «وطني معي أنَّى التفتُّ وجدته/ متجسداً بي خافقاً ودماءَ/ أنا مُنتَمٍ لجراحِه وفخارِه/ لا أستظلُّ بغيره أفياءَ/ إني نذرت له الهوى ومحضته/ ما شاء مني للعلي ما شاءَ/ وطني لو مِزقاً حببتُ ربوعه/ وعروبتي قدَّستُها سمراءَ»
وللهم القومي وقضايا الأمة العربية وما تعانيه الشعوب العربية في شتى بقاع الوطن العربي الكبير من مشكلات نصيب من حياة شاعرنا فقد كانت دائماً هاجسه الأكبر الذي يؤرقه وينغص عليه حياته ولاسيما القضية الفلسطينية التي كتب فيها الكثير من القصائد والتي رسم فيها لوحات صادقة لشعب معذب منكوب آلى على نفسه أن يثور على الاحتلال الصهيوني بثورة الحجارة ليحطم نير الاحتلال، وينعم بدولة حرة مستقلة. يقول في قصيدة "وطن العبادة" «إن إيمان الشعوب بحقها/ لابد أن يهمي سطوعاً يحمل البشرى بأن النصر آتٍ/ بالحجارة بالنوافذ عاصفات/ بالشوارع لاهبات/ بالنساء مزغردات في ميادين البطولة والشهادة/ هذا قرار الحسم في الزمن الفلسطيني في عصر الشهادة/ إن الألى حملوا الحجارة أيقنوا أن الفداء هو الولادة / وتفجروا وطناً يناديهم ويدعى باسمهم وطن العبادة..»
ويتابع الدكتور "السراج": «ولكن شاعرنا يذهب أبعد من قضية حب الوطن، وعشق الأمة... يذهب إلى دعوة إنسانية عريضة، ينعم فيها البشر بحب بعضهم بعضاً، فلا حقد ولا بغضاء ولا حسد... فحب الإنسان لأخيه الإنسان وحرصه على سعادته وهنائه أمر ينبغي أن يحرص عليه ويتمسك به أي فرد يعيش في هذه المعمورة والسلام هو الذي يجب أن يسود بين البشر، فلم الحروب والقتل واستعمار الإنسان القوي للآخر الضعيف. يقول في قصيدة "يا لغة الشمس" «كل جرح ينزُّ في العالم الأوسع/ جرحي ينز من خلجاتي/ كل طفل مشرد هو طفلي / وفتاة في النائبات فتاتي/ وأنين الشعوب بعض جحيمي/ لو سمعت الأنين في خلواتي/ فلماذا الجنون والحرب والقتل/ وحمّى المجازر المفجعات/ ولماذا لا نجعل الحب ديناً/ هو إنساننا بأسمى الصفات».
ثم نراه يلتمس الحل لما تعانيه البشرية من ظلم، وفتك، وقتل، وخراب... فإذا هو شاعر رومانسي يجد الحل في اللجوء إلى الشعر الطاهر العفيف، والحلم الرائع الجميل وفي ذلك يقول: «أهو الشعر فليكن هاجس الشعر صلاةً كأطهر الصلوات/ أهو الحلم يا زغاريد حلمي/ أيقظيني لعل فيك نجاتي/ ما خُلقنا لكي نموت ولكن/ لنضيء الشموع باسم الحياة».
ويختم الدكتور "السراج" حديثه عن الشاعر " قندقجي" فيقول: «لابد أن نقول بأن الشاعر كان متمكناً من فنه الشعري، وأدواته الشعرية، ولا غرابة في ذلك لأنه قضى شطراً عظيماً من حياته مدرساً للغة العربية في ثانويات حماه وفي الجزائر أيضاً مشاركاً في بعثة التعريب التي أسهمت فيها الجمهورية العربية السورية سنداً للجزائر الشقيق كما كان فارس منبر حقيقي يلقي قصائده على جمهوره بعنفوان الشاعر الواثق من نفسه ورأسه مرفوع إلى الأعلى وكأنه يبحث عن شيء لم يصل إليه بعد. ومن يقرأ شعره يلحظ أنه قد كتب الشعر العمودي وشعر التفعيلة أيضاً فلم يكن من الشعراء المتزمتين للون واحد، فالشاعر الحقيقي هو الذي يبدع، ويكتب القصيدة الجميلة في أي من هذين اللونين».
ومن إنتاجه الشعري صدرت له الدواوين التالية "رحلة الضياع"- دمشق 1968، "أشرقت الشمس" وهي عبارة عن ملحمة شعرية من نضال الأمير "عبد القادر الجزائري"- الجزائر 1971، "أغنيات للمرافئ المضيئة"- دمشق 1978، "لا تقطعوا جدائل الشمس"- اتحاد الكتاب العرب- دمشق 1980، "أعدوا الطريق للفرح"– دمشق1981، "السنديان والحلم المزهر"- دمشق 1982، "باسمك أيها الحب"- اتحاد الكتاب العرب- دمشق 1986، "يا أيها الحجر المقدس"– اتحاد الكتاب العرب– دمشق 1990، "معلقات على جدار الزمن العربي"، وترك ثلاثة دواوين مخطوطة هي: "مزامير لامرأة كانت"، "أخاف عليك عاشقة"، "الله يا شام"، وله ثلاث دراسات أدبية مخطوطة: "الثورة الجزائرية في شعر شعرائها"، "عبقريات بلغارية"، "عناقيد من كروم الذاكرة والتاريخ".
لقد رحل شاعرنا عن عالمنا رحيلاً مفاجئاً في دمشق 1991 ولكن أشعاره التي نقرؤها تجعله دائم الحضور بيننا وكذلك آثاره الأخرى المخطوطة التي نرجو أن يهيأ لها من يهتم بها ويقوم بنشرها كي تحفظ من الضياع وتكون بين أيدي الأجيال دليلاً على جهود شاعر وباحث حفلت رحلة حياته بالعطاء الوافر الكبير.