يتميز الإنسان في جملة ما يتميز به بأنه كائن جمالي، لا بمعنى أنه موضوع الفن ومحوره فحسب، وإنما أيضاً بمعنى أنه الكائن الوحيد الذي يسعى إلى الجمال إنتاجاً واستهلاكاً، فالإنسان يدخل في علاقة جمالية مع كل ما يحيط به سواء أكان مادياً أم معنوياً أو روحياً.
ضمن فعاليات المهرجان السوري الثاني المقام في مدينة الحسكة التقى موقع eHasakeh الدكتور الشاعر والناقد "سعد الدين كليب" الذي تحدث عن الحاجة الجمالية قائلاً: «ما أريد قوله في هذا المجال، هو أن حاجات الإنسان الجمالية ذات الطبيعة الروحية لا يمكن التعبير عنها إلا بشكل مادي محسوس، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذه الحاجات متعددة ومتنوعة، كما إنها متبدلة ومتغيرة، بحيث لا يصح الكلام على حاجة واحدة وحيدة أو على حاجة ثابتة مطلقة، إن ما هو مطلق حسب التاريخ الإنساني، هو وجود الحاجة الجمالية، أما مستويات هذه الحاجة ودرجاتها وأشكالها فهي ذات طبيعة اجتماعية تاريخية نسبية، وبذلك نفهم هيمنة فن من الفنون في مرحلة من المراحل، كما نفهم نشأة هذا الفن في هذه المرحلة، وتلاشيه في تلك، فلا يمكن مثلاً أن نفهم استعلاء الشعر الغنائي، في الأدب العربي عبر القرون الكثيرة الماضية، بمعزل عن فهم طبيعة الحاجة الجمالية الغنائية التي كانت مهيمنة على الحاجات الأخرى بالنسبة إلى الإنسان العربي في تلك القرون، والشيء نفسه يقال في ظهور أجناس أدبية جديدة في الأدب العربي الحديث».
أدى بروز تلك الحاجات إلى ظهور المسرحية والرواية والقصة القصيرة، نقول هذا من دون أن ننفي أهمية التأثر بالغرب الأوروبي، في نشأة الأجناس الأدبية، غير أن التأثر جاء نتيجة لتلك الحاجات، ولم يكن سبباً فيها، أي إن بروز الحاجات هو الذي دفع إلى التأثر بما لدى الغرب من أجناس أدبية موضوعية ودرامية. إذاً فالحاجة الجمالية هي الباعث الأساسي في نشأة الفنون بأجناسها وأنواعها، وهي السبب الأساسي أيضاً في سيرورتها أو تطورها، وفي تلاشيها أو موتها، وبسبب التعقّد والتنوّع في طبيعة الحاجة والوعي الجماليين، وبذلك فإن مشروعية هذا الفن أو ذاك ترتبط أساساً بمدى تلبيته للحاجة الجمالية ودمى تعبيره عنها، وإشباعه إياها، مع الإشارة إلى أن حديثنا عن التنوع في الحاجة والوعي لا يغفل أهمية التنوع في المادة كاللغة واللون والصوت والحجر والجسد، فلولا هذا التنوع في طبيعة المواد لما أمكن الكلام على تنوع في الفنون
عن ظهور حاجات ذات طبيعة درامية وموضوعية في الأدب يقول "كليب": «أدى بروز تلك الحاجات إلى ظهور المسرحية والرواية والقصة القصيرة، نقول هذا من دون أن ننفي أهمية التأثر بالغرب الأوروبي، في نشأة الأجناس الأدبية، غير أن التأثر جاء نتيجة لتلك الحاجات، ولم يكن سبباً فيها، أي إن بروز الحاجات هو الذي دفع إلى التأثر بما لدى الغرب من أجناس أدبية موضوعية ودرامية.
إذاً فالحاجة الجمالية هي الباعث الأساسي في نشأة الفنون بأجناسها وأنواعها، وهي السبب الأساسي أيضاً في سيرورتها أو تطورها، وفي تلاشيها أو موتها، وبسبب التعقّد والتنوّع في طبيعة الحاجة والوعي الجماليين، وبذلك فإن مشروعية هذا الفن أو ذاك ترتبط أساساً بمدى تلبيته للحاجة الجمالية ودمى تعبيره عنها، وإشباعه إياها، مع الإشارة إلى أن حديثنا عن التنوع في الحاجة والوعي لا يغفل أهمية التنوع في المادة كاللغة واللون والصوت والحجر والجسد، فلولا هذا التنوع في طبيعة المواد لما أمكن الكلام على تنوع في الفنون».
قبل الانتقال إلى الحديث عن الأجناس الأدبية من منظور الحاجات الجمالية يقول "كليب": «تقتضي الإشارة إلى أن ثمة تصنيفات للفنون، منها ما ينطلق من حاستي السمع والبصر، ومنها ما ينطلق من علاقة الفنون بالزمان والمكان، ومنها ما ينطلق من طبيعة المادة، وينجم من ذلك أن ثمة فنوناً حركية وأخرى سكونية، أما التصنيف المنطلق من مادة الفنون، فيرى أن الفن محكوم بطبيعة مادته، الرقص مادته الجسد، والنحت مادته الحجر، أما الأدب فمادته هي اللغة التي تجعلها سمعية وحركية وزمنية في آن معاً.
أما بالنسبة إلى تصنيف الأجناس الأدبية، فنرى أنه لا يتم بالشكل الأمثل إلا بالانطلاق من الحاجات الجمالية وهي الغنائية والموضوعية والدرامية، بل إننا نذهب إلى أن الفنون عموماً يمكن تحديدها بشكل أفضل في حالة الانطلاق من تلك الحاجات، غير أن المقام والمجال لا يسمحان لنا بغير الإشارة، لذلك سنتوقف عند الأجناس الأدبية الأكثر أهمية، بالانطلاق من الأساليب الجمالية التي هي الناظم للأجناس الأخرى، وهو الأسلوب الغنائي أولاً الذي يتحدد بالتعبير عن المشاعر والأحاسيس الذاتية الفردية، وذلك من منظور ذاتي أيضاً، بحيث تبدو مجمل الأشياء والظواهر مندغمة بالانفعالات الذاتية للمبدع، أي إن العالم، في الأسلوب الغنائي يعاد إنتاجه من خلال الذات المبدعة بمشاعرها وانفعالاتها ومثلها العليا، ولعل فن الشعر يكون المثل الأكثر وضوحاً في التدليل على طبيعة الأسلوب الغنائي، لذلك نرى أن الأسلوب الغنائي يجد أساسه في الحاجة الجمالية إلى وعي الذات عبر الذوات الأخرى، كما يجد أساسه أيضاً في رؤية العالم والطبيعة من خلال الذات في محاولة لاستكشافها من جهة، واستكشاف الذات من جهة أخرى، ولعل ذلك هو السبب في أن هذا الأسلوب يعتبر من أقدم الأساليب الجمالية.
أما بالنسبة إلى الأسلوب الموضوعي الذي يعتبر الأسلوب الثاني الأكثر شيوعاً في التاريخ الأدبي والإنساني عامة، فعلى الرغم من أهمية الأسلوب الغنائي بالنسبة إلى الوجدان الذاتي، فإن للأسلوب الموضوعي "السردي" من الأهمية والتنوع والانتشار والعمق بين المجتمعات والطبقات والفئات الاجتماعية ما ليس لسواه من الأسلوبين الآخرين بل من الفنون عموماً، فهو الأسلوب الذي يمكن أن تتعامل معه مختلف الشرائح الاجتماعية على اختلاف منابتها الاجتماعية، ومواقعها الأيدلوجية.
حيث يتصف هذا الأسلوب برواية حدث أو أحداث ما وقعت أو يمكن أن تقع لأشخاص حقيقيين أو متخيلين في زمن ومكان محددين، بهذا يمكن القول بأن الراوي لا يسرد مواقفه وانفعالاته الذاتية، وإنما يسرد ما حدث أو يحدث للآخرين وطريقة تفاعلهم مع ما حدث، وتأثيرهم فيهم، ومواقفهم الاجتماعية والسلوكية والنفسية جرّاء ما يتعرضون له من أحداث، وبما أن الراوي لا يتدخل فيما يحدث، فإن موقفه يبدو موضوعياً بالنسبة إلى السامع أو القارئ، من هنا تنهض مشروعية هذا الأسلوب مما يمكن أن نسميه جمالياً حاجة القصّ أو السرد، وتتواجد هذه الحاجة في المجتمعات بمختلف أطوارها الحضارية، لكن ننوه هنا بأنها حاجة فردية بقدر ما هي اجتماعية، لذلك يصح القول بأن هذه الحاجة ومن ثم هذا الأسلوب، هي الحامل الأكبر والأوضح للقيم والمثل الاجتماعية الدينية والأخلاقية والسياسية والأيديولوجية عامة.
الأسلوب الثالث وهو الأسلوب الدرامي وهو أسلوب يجمع بين الأسلوب الغنائي والموضوعي، حيث إن الشخصيات الدرامية تعبر عن مواقفها وآرائها ومشاعرها تعبيراً ذاتياً غنائياً مباشراً، فهي التي تتحدث وتحاور وتتحرك وتفعل، وذلك بمعزل عن تدخل الكاتب الذي من المفترض أن يتخذ منها، موقفاً موضوعياً، يعرضها ويرصدها ويبلورها بشكل لا يبدو فيه أن له علاقة بها، أو بشكل لا يسمح له بالتعبير عن مواقفه الذاتية، تعبيراً مباشراً، أي أن الأسلوب الدرامي ذاتي غنائي بالنسبة إلى الشخصيات وتعبيراتها، وموضوعي بالنسبة إلى الكاتب ومواقفه الذاتية، أو لنقل إنه غنائي داخلياً وموضعي خارجياً، وهذا الجمع يقوم على الوحدة العضوية بينهما، وهي التي تجعل من الأسلوب الدرامي مستقلاً استقلالاً تاماً عن كل من المقارنة بين هذه الأساليب يغني في توضيح طبيعة كل منها.
لذلك فالحاجة الجمالية التي يعبر عنها الأسلوب الدرامي هي الحاجة إلى الحوار مع الآخر، حيث أن هذا الحوار يؤدي إلى معرفة الذات ومعرفة الآخر عبر الاختلاف في المقام الأول، لذلك فإننا بحاجة إلى أن نرى ذواتنا في مرايا الآخرين سواء أكانت محدّبة أم مقعّرة أم مستوية، وربما لهذا السبب تحديداً قلّما يزدهر الأسلوب الدرامي في المراحل التاريخية القمعية أو الظلامية، في تتعاظم أهميته في المراحل الديمقراطية والانفتاح على الآخر المختلف».
يذكر أن الدكتور "سعد الدين كليب" من مواليد "حماة" 1957. حائز شهادة الدكتوراه في الأدب العربي الحديث من جامعة "حلب" رئيس قسم اللغة العربية في جامعة "حلب"- عضو اتحاد الكتاب العرب في "دمشق"، له إصدارات شعرية عديدة ، نشر العديد من الأبحاث المحكمة والعديد من الدراسات النقدية والجمالية في مختلف الدوريات المتخصصة محلياً وعربياً.