«"محمد باقي محمد" قاص وروائيّ مبدع، أوتي ثمار نقد بنّاء عالي النكهة والتألّق، إنه قامة ثقافية جادة في تعاملها مع الحياة إلى درجة البساطة، يقدّم لك المعرفة المرجوة ويُشعرك بأنك أدرى منه في الموضوع المتداول بينكما، وهو إلى جانب ذلك يجمع بين تواضع العارف وحكمة الخبير، إنسان لا يعرف إلا وردة المحبة ليستقي منها ما يهبه للآخرين»، هذا ما قاله الشاعر "منير خلف" حول شخصية الأديب "محمد باقي محمد"، لموقع eSyria.
من جهته الأديب "محمد باقي محمد" قال: «بعد ولادتي بسنة أو أقل انتقل والدي من قريتنا إلى مدينة "الحسكة"، في ظل نزوح هائل من الريف إلى المدينة، في عموم العالم المخلف غبّ الاستقلال، هذا يحيل إلى طفولة ترعرعتها بعيداً عن الريف، ولو لم نكن نملك قطعة أرض زراعية فيها، لانقطعت علاقتنا به، أو وهت إلى حدودها القصوى، لكنّني لم أتعمد بعالم الطفولة اللاهي، لأنّ والدي كان مريضاً، وكان بحاجة إلى من يساعده، ففعلت لأنّني الذكر الأكبر من أبنائه، ومع ذلك أفسدني الدلال، فلقد تأخر أخي الذي يصغرني عن المجيء اثنتي عشرة سنة، أي إنني كنت الولد الوحيد إلى جانب أربع شقيقات، في مجتمع ذكوريّ!
يحتاج الموضوع إلى اجتراح أساليب جديدة في اجتذاب الناس نحو الكتاب، بعيداً عمّا ترسخ في ذهنهم من غلاء في سعره، لأنّنا في اتحاد الكتاب مثلاً نقدمه بثمن زهيد، تماماً كما هو الحال في "وزارة الثقافة"، وبصورة عامة نحن أيضاً نتحمل جزءاً غير قليل من المسؤولية، لغياب المبادرات، وقد يحتاج الأمر إلى التفكر في الاشتغال على مساحات جديدة وصيغ أكثر ملاءمة للعمل، وإيجاد وسائل أجدى في التواصل مع الجمهور العريض بقصد استعادته إلى ساحة العمل الثقافي باعتباره ضرورة
لكنّ الضربة القاصمة التي تلقيتها كانت وفاة والدي، إذاك كنت في السنة الأخيرة من المرحلة الإعدادية، وهكذا وجدت نفسي في موقع المسؤولية عن أم وأربع شقيقات وشقيق كان عمره آنذاك أحد عشر شهراً، إضافة إلى جدة من جهة الأم!
حرمتني المسؤولية المبكرة من اكتشاف عالم المراهقة، وشيئاً من وهج الشباب، ووشمت مزاجي باكتئاب، ناهيك عن أنّها حرمتني من الخيارات التي تتطلب دواماً في الجامعة، فانتسبت إلى جامعة "دمشق" كطالب حرّ، وتحصلت على إجازة في الآداب- قسم الجغرافية، ثمّ تحصلت على دبلوم في التأهيل التربوي من كلية التربية بالجامعة ذاتها، وكنت قد التحقت بسوق العمل، بعد أن أنهيت المرحلة الثانوية، ربما أكون قد تجاوزت مرحلة الطفولة، ولكنّني كنت أمهد لسؤالك الثاني أهم العوامل التي أسهمت في تكوين شخصيتي الأدبية.
فالبدايات تعود إلى زمن موغل في عالم الطفولة، آنئذ كانت جدتي- وهي زوجة عم أبي، ومربيته بسبب يتمه- تزورنا كل حين، وكانت "حكواتية " من طراز رفيع، لذلك كنا نستثمر زياراتها في الاستماع إلى حكاياتها بشغف، على الرغم من زجر الأهل، ذلك أنّنا كنا نمنع المرأة المسكينة من النوم، لكنّ والديّ لم يلتقطا ميولي الأدبية حينها، ليضعاني على بداية الطريق.
والمحطة الثانية كانت في الصف الأول الإعدادي، فلقد درسنا العربية مدرس "دمشقي" اسمه "عبد الله الصباغ"، وذات حصة للتعبير أحضر معه رواية "الشراع والعاصفة" لـ"حنا مينة"، وقرأ علينا حكاية "جنيات البحر"، ومنذ ذاك الوقت تعودت القراءة، شخص آخر له فضل في هذا الجانب، إنّه الدكتور"محمد عبدو النجاري"، فلقد سمح لي باستعارة الكتب من مكتبته، فقرأت منها "الشراع والعاصفة"، وكانت بداية تعرفي على عالم "حنا مينة" الروائي، ثمّ اختارني المدرس ذاته كشخصية للعدد الأول من مجلة الحائط في المدرسة، وكانت دفعاً معنوياً آخر إلى الأمام!
لم تكن قراءاتي منظمة وممنهجة، فقرأت "الدون الهادىء" "لشولوخوف"، و"كيف سقينا الفولاذ" لـ"أوستروفسكي"، و"الجريمة والعقاب" لـ"دوستويفسكي"، إلى جانب سلسلة قصص "طرزان"، وروايات اللص الظريف "أرسين لوبين" لـ"موريس لابلان"، إضافة إلى روايات أخرى بوليسية عن "شرلوك هولمز"، أو روايات "آجاثا كريستي"، ناهيك عن المجلات المصورة عن شخصيات شهيرة كـ"سوبرمان" و"تانتان"!
لقد قرأت "إحسان عبد القدوس" في كثير من أعماله، بالشغف ذاته، الذي قرأت به "محمد عبد الحليم عبد الله"، ثمّ "نجيب محفوظ" لاحقاً، من "فيكتور هيجو" في بؤسائه، إلى "ستاندال" في الأحمر والأسود، و"كافكا" في المسخ، أو "أرنست همنغواي" في الشيخ والبحر ولمن تقرع الأجراس! والقائمة تطول لتشمل "زكريا تامر" و"سعيد حورانية" ، و"جبر إبراهيم جبرا" الروائي والناقد والقاص والشاعر، و"أدونيس"، و"طه حسين"، و"المازني"، و"توفيق الحكيم" الروائي والمسرحي، و"سعد الله ونوس"، و"السياب"، "نازك الملائكة"، و"عبد الوهاب البياتي"، و"محمود درويش"، و"سميح القاسم"، و"ناظم حكمت"، و"العجيلي"، أيضاً على سبيل التعداد!
هذه القراءات، وغيرها كثير، خلقت مني إنساناً هشاً من الداخل، ثمّ أثّر فيّ موت أبي لاحقاً، فلقد حرمني مرضه من شقاوات الطفولة، كما حرمني موته من حسّ الأمان، وأسلمني إلى قلق لا ينتهي! وعندما كنت في منتصف المرحلة الثانوية، تنبأ لي مدرس العربية "عبد الوهاب حاووط"، وهو الآخر "دمشقي"، بأنّني سأتمكن من الكتابة إن حاولت، كان هذا على إثر قراءة موضوع تعبير قمت بكتابته!
اليوم، وبعد مرور تلك السنوات كلها، ما تزال قراءتي غير ممنهجة، أمّا انتسابي إلى الحزب "الشيوعي السوري" لبضع سنوات فلقد عمّق من انحيازي إلى الشرائح الفقيرة! لكنّني بتأثير من الفكر الليبرالي عملت في ما بعد لبعض الوقت مع لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان!
وكانت محاولتي الأولى في كتابة القصة عندما كنت طالباً في الصف الثاني الثانوي، آنئذ ترسمت خطوط قصة كنت قد قرأتها في مكان ما، لكنّ بدايتي الحقيقية جاءت في أعقاب العمل في الإصلاح الزراعي، لقد كنت مبرزاً في الدراسة، والجميع كان يتنبأ لي بمستقبل باهر، وكان السؤال هو أهذا هو المستقبل الباهر الذي كنت تسعى إليه!؟ أنت كما الآلة الناسخة، تكتب لمراجعيك عدد الهكتارات المؤجرة لهم فقط، عندها جاءت قصتي الأولى كردّ فعل على عملي الوظيفي، لينشرها الشاعر "شوقي بغدادي" في ملحق الثورة الثقافي في نهاية الثمانينيات!
قراءاتي النقدية جعلتني أقف على أرض صلبة، والكثيرون يتعاملون معي كناقد، لقد مكنّني النقد من اختبار أدواتي، ونأى بي عن الانحياز لشكل دون آخر، لكنّني لست ناقداً، وإذا فكرت في هذا الاتجاه، فلن يتم ذلك من غير تبين منهج واضح يحكم عملي النقدي ويحتكم إليه!
لقد غادرت خانة المؤمن المطمئن، لكنّني قرأت "القرآن" و"الإنجيل"، وقرأت الكثير في الفقه واللاهوت، وغير قليل من كتب التراث، هذه العوامل في اجتماعها وتفاعلها أكسبتني ما أسميته أنت بشخصيتي الأدبية!
هذا التشعب في القراءة دفعني لكتابة رواية يتيمة، وما يزال الكثيرون ينتظرون منتجاً آخر في هذا الجانب، وقد يكون ثمّة تصور أولي حول هذا الموضوع آخذ في التبلور، لكنّني ما أزال غير قادر على الإجابة بحسم».
وختم الأديب "محمد باقي محمد" حديثه حول الحركة الأدبية وآلية النهوض بها قائلاً: «يحتاج الموضوع إلى اجتراح أساليب جديدة في اجتذاب الناس نحو الكتاب، بعيداً عمّا ترسخ في ذهنهم من غلاء في سعره، لأنّنا في اتحاد الكتاب مثلاً نقدمه بثمن زهيد، تماماً كما هو الحال في "وزارة الثقافة"، وبصورة عامة نحن أيضاً نتحمل جزءاً غير قليل من المسؤولية، لغياب المبادرات، وقد يحتاج الأمر إلى التفكر في الاشتغال على مساحات جديدة وصيغ أكثر ملاءمة للعمل، وإيجاد وسائل أجدى في التواصل مع الجمهور العريض بقصد استعادته إلى ساحة العمل الثقافي باعتباره ضرورة».