تعتبر الأغنية الريفية في سورية جزءاً هاماً من الفلكلور الشعبي تمثل ذاكرة المجتمع على اختلاف بيئاته، وتاريخ أجيال طويلة مرت عليه، وقبل انحسارها وغيابها، كانت جلسات الغناء الريفي، في بادية، وريف محافظة "حمص"، وبخاصة قبل انتشار الراديو التلفزيون، متميزة في كل شيء، وبعض هذا الغناء له خصوصية يتفرد فيها عن باقي ألوان الغناء الريفي الأخرى. للوقوف حول هذا الموضوع eHoms التقى الأستاذ "عبد الكريم الناعم" الذي تناول الفلكلور الغنائي الريفي في العديد من الصحف السورية، وبعض البرامج الإذاعية والتلفزيونية، فضلاً عن المحاضرات التي قدمها في هذا المجال، فأشار في البداية قائلاً:
«كان السهر والسمر في الريف الفسحة الوحيدة المتاحة للفلاحين ليعبروا عما يجول في أنفسهم من أحاسيس، ومشاركة وجدانية مع أبناء قريتهم في مختلف المناسبات، وكانت السهرات على درجة عالية من الإنصات والتفاعل، وكان للموهبة الصوتية وموهبة الأداء تقديراً كبيراً في تلك الأرياف، لكن للأسف مع انتشار المذياع والتلفزيون وتعميم الهابط من الغناء، اختفت تلك السهرات الجميلة المرهفة، وفقد الريف بهجة الأعراس والسمر».
من أبرز الأسماء التي كانت تغني العتابا الشرقية في "حمص" ممن التقيت بهم أو سمعت تسجيلات لهم أذكر المرحوم "عيسى العبود" من بلدة "المشرفة"، وهناك "فرحان الأشقر"، والمرحوم "حمادي الصالح"، ويمكن أن نذكر في الغناء الشرقي المطرب الريفي "حسن الشريف"
وتابع يقول: «يحضرني الآن نشاطات محافظة "حماة" في مهرجان الربيع والتي تشارك فيها العديد من الفرق الريفية التي تقدم الفلكلور الريفي الأصيل، وهذا أمر تشكر عليه تلك المحافظة والجهات القائمة على المهرجان. ويدعونا هذا الموضوع للتساؤل أين نحن في محافظة "حمص" من فلكلور المدينة والريف معاً، ومما يؤسف له أن الكثير من العطاءات الفنية الريفية التي وصلتنا عبر حناجر جميلة وبألحان معبرة، قد غابت نهائياً من حياتنا، وأنا شخصياً أشعر بشيء من الغربة لغياب هذا الفلكلور الذي منذ الطفولة نشأت معجوناً به».
وعما تتميز به "حمص" من ألوان الغناء الريفي يقول: «غالباً، الموسيقى العربية اقترنت بالغناء، سواء في الريف أم في المدن، وهناك الكثير من التقاطعات الغنائية بين الأرياف، لكن الشيء الوحيد الذي تتميز وتتفرد به محافظة "حمص" من ناحية الغناء الفلكلوري الشعبي، هو نوع من غناء العتابا يسمى "العتابا الشرقية"، أو العتابا "القروانية"، نسبة إلى المنطقة التي نشأت فيها، وهي منطقة "القريتين" الواقعة شرق محافظة "حمص".
وهذه العتابا متميزة بلحنها وليس بصياغتها، فالعتابا من حيث الصياغة هي واحدة في كل بلاد الشام، إنما هنا التميز بطريقة اللحن، كما أن بيت العتابا يبدأ تحديداً بكلمة (آخ) وليس بكلمة (أوف) المستعملة عادة في أنواع العتابا الأخرى. كما أن هذه العتابا لها طريقة خاصة بالأداء لا تغنى إلا في تلك المنطقة، ومما يؤسف له أن هذا النوع من الغناء بدأ ينقرض، إلا قليلاً، وما يزال هناك بعض الأجيال الجديدة التي تهتم بهذا اللون فتغنيه على أصوله».
وأضاف "الناعم": «بانتهاء بيت العتابا هناك ما يسمونه "الكسرة"، وهو نوع من الغناء يأتي بعد البيت ويسنده، وهو تابع له، وأيضاً هذه الكسرة في هذه العتابا غير موجودة إلى في هذه المنطقة التي ذكرناها. وهناك أيضا نوع من الموليا الشرقية، لا يُسمع لحنها إلا في تلك المنطقة، ولا يغنى خارجها، أما ما عدا ذلك فكل أنواع الغناء من (عتابا، وموليا، ودلعونا، ولالا.....) فهي تقريباً متداخلة ومتشابهة إلى حد ما في معظم مناطق بلاد الشام وشمال وغرب العراق».
وعن أبرز الأسماء التي كانت تغني العتابا الشرقية في "حمص" قال: «من أبرز الأسماء التي كانت تغني العتابا الشرقية في "حمص" ممن التقيت بهم أو سمعت تسجيلات لهم أذكر المرحوم "عيسى العبود" من بلدة "المشرفة"، وهناك "فرحان الأشقر"، والمرحوم "حمادي الصالح"، ويمكن أن نذكر في الغناء الشرقي المطرب الريفي "حسن الشريف"».
وأضاف: «لا بد من تقسيم الفلكلور الريفي إلى قسمين (بدوي، وحضري). فلدى البدو أنواعاً محددة تغنى على مساحة البادية هي: "القصيد" وعند أهل الخليج تسمى "الشعر النبطي"، والهجيني والسامري والحروبي. وبحكم تجاور البدو مع الفلاحين انتقلت الأنماط البدوية إلى المجالس الريفية، ولم يحدث العكس أن انتقلت العتابا مثلاً إلى البدو، وربما لأن البدو كانت تستعلي على الحضر. تقسم أنواع الغناء المعروفة في الحضر إلى (العتابا بأنواع أدئها، الموليا بأنواعها، الدلعونا، اللالا)».
وعن الآلات الموسيقية الفلكلورية التي كانت ترافق الغناء الريفي حالياً بالانقراض، تحدث "الناعم": «هناك آلات موسيقية ذات خصوصية بدأت تنذر بالانقراض لأن أحداً لم يعد يعتمد عليها في مناسباته، ومنها على سبيل المثال (القصبة) وهي آلة تشبه الناي تماماً وأقل منها ثقوباً، ويوضع في جهة الفن الذي ينفخ فيها مخروط معدني، ولها طريقة خاصة في النفخ، تختلف عن النفخ في الناي، ومن الآلات الأخرى هناك (المجوز)، وأعتقد أن الرباب سيلحق بهما، لأنه لا يوجد من أبناء الأجيال الصاعدة من يريد التعلم على هذه الآلة، وانقراض هذه الآلة يوحي بأفول زمن بكامله، هذه الآلة التي رافقت إنسان هذه البلاد منذ بداياته حتى نهايات القرن العشرين، ولكي لا أظلم هذه الآلة أقول إنها ما تزال موجودة وباهتمام في بعض مناطق الجزيرة السورية، كما هي موجودة باحترام في محافظة "السويداء"».
وسألنا الأستاذ "الناعم" عما إذا أعطى الإعلام السوري والجهات المعنية هذا النوع من الفلكلور حقه في دراسته والتعريف به؟
فأجاب: «على الرغم من أنه فن أصيل وعميق ومعبر، وهو المساحة الكبرى التي يعيش فيها أهلنا في الريف والبادية، فإن الفلكلور الريفي الغنائي عموماً لم يأخذ حقه لا في الإعلام المرئي ولا في المسموع، ولم يُهتم بهذا التراث لا تسجيلاً ولا دراسة، ولكن الآن مديرية التراث الشعبي في وزارة الثقافة نشرت أبحاثاً لعدد من الباحثين في الفلكلور الغنائي، من خلال حركة ناشطة بدأت منذ عشر سنوات تقريباً، قد تسد شيئاً من هذا الخلل».
وبكلمة أخيرة اختتمنا فيها اللقاء شدّد الأستاذ "عبد الكريم الناعم على أهمية هذا الفلكلور قائلاً: «إن أهمية الفلكلور تكمن في قيمته أنه فلكلور بدلالاته وبتفسيراته وبعمقه، وموروثه، وهو جزء من ذاكرة الأمة ومن تاريخها الروحي، ويشمل الحياة كافة، ولكم يحزنني أن أكثر من بلد عربي قد أسس مجلات مختصة لدراسة هذا الفلكلور، وسورية لا زالت غائبة عن هذا الاهتمام. وقبل ثلاثين عاماً هناك من طرح من الموسيقيين شعار تطوير الفلكلور الشعبي، وهو شعار خطير جداً لأنه يدمّر الفلكلور، وبعضهم يعتمد على مدخل اللحن الشعبي ثم يدخل المؤلف الموسيقي ألحانه الخاصة وهذا غير جائز ويؤدي إلى تخريب الفلكلور».
وأضاف: «لقد كتبت عشرات المقالات عن الفلكلور وخاصة الغنائي منه، في مجموعة من الصحف المحلية والمركزية السورية، وطرحته في العديد من المقابلات الإذاعية والتلفزيونية، ولدي من الكتابات في الفلكلور ما أتمنى أن يتاح لي أن أجمعه وأفرزه، أبوبه، وبالتأكيد هو كمّ كتاب أتمنى أن أتمكن من نشره في فترة لاحقة».