في ذلك الوقت العصيب، والاستعمار الفرنسي يفرض الاحتلال والظلم والقهر على سورية وأهلها، ينهض الشرفاء للتصدي للطغاة وأعداء الإنسانية، يلقون بكل الترف المزيّف، من أجل ثراء القيمة الحقيقية لجدارة الانتماء.
"كفر تخاريم"، قرية في محافظة "حلب"، ثرية شامخة توضّعت أصيلةً في شمال سورية، في دفئها الحميم ولد "إبراهيم بن سليمان آغا بن محمد هنانو" عام 1894، فنبض قلبه بها، ونبضت به، أنموذجاً لوطن يمتد إلى كل الجهات ينتج من رحمه النبيل صفوة الرجال.
لو كان "لإبراهيم هنانو" سبعة رؤوس، بعدد جرائمه، لطلبت إعدام رؤوسه السبعة، ولكنه لا يملك إلا رأساً واحداً
نشأ "إبراهيم هنانو" في أسرة يبدو أنها تنحدر من أصول تركية ميسورة الحال غنىً وثراءً، اعتنت أسرته بتربيته وتعليمه، وسرعان ما التحق بعد أن أنهى تعليمه الأساسي بالمدرسة الملكية للحقوق والإدارة في "الأستانة"، تخرّج بعدها لينخرط في العمل، ويتنقّل في عدد من الوظائف، إلى أن أصبح رئيساً لديوان ولاية "حلب" آنذاك.
كان ذلك في الوقت الذي توضّحت فيه نيات فرنسا باستعمار واحتلال سورية، وبعد أن دخلت قوات الجنرال "غورو" ومعركة "ميسلون" واحتلال سورية، فهب الأحرار للذود عن حياض الوطن، وكان "إبراهيم هنانو" في مقدمة المتحمسين لتفعيل دور النضال بكل الوسائل المتاحة لطرد المستعمر البغيض، وقد كان "لهنانو" في "جبل الزاوية" مكمن يستطيع أن ينطلق منه لتجميع الوطنيين وتنظيم أنفسهم في جمعية أطلقوا عليها اسم "جمعية الدفاع الوطني" التي قامت بجهود "إبراهيم هنانو" ورفاقه بجمع المال والسلاح، وتنظيم وإدارة الثورة لمقاومة الفرنسيين.
كان "هنانو" رجلاً يملك وعياً عالياً، وكان خطيباً مفوهاً وقد ترك خطابه الشهير الذي وجهه لأبناء الشعب السوري صداه الطيب في تجميع المناضلين وتزايد أعدادهم وقد قال فيه: «يا أبناء سورية الأشاوس، يا أباة الضيم، من قمة هذا الجبل الأشمّ أستصرخ ضمائركم، وأقول لكم، إن بلادنا العزيزة أصبحت اليوم محتلة، مهددة من قِبَل المستعمرين، أولئك الذين اعتدوا على قدسية استقلالنا وحرياتنا، فيا أبطال الوغى، ويا حماة الديار، إلى الجهاد، إلى النضال عملاً بقوله تعالى: (وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم)».
استطاع "إبراهيم هنانو" والمجاهدون أن يوقعوا في صفوف الفرنسيين خسائر موجعة، واستطاعوا أيضاً من خلال تنظيم حركتهم النضالية، والتفاف الشعب حولهم تأليف حكومة وطنية في شمال "سورية" منطقة "إدلب والمعرة وجسر الشغور" ما وسع من نفوذ الثورة وقدرتها على التواصل مع الحركات الثورية الأخرى التي انتشرت في وسط وجنوب وشمال "سورية"، وأصبحت تشكل خطراً حقيقياً على بقاء الاستعمار الفرنسي الذي قام بمحاصرة "هنانو" وقواته من كل الجهات، واستقدام قوات فرنسية كبيرة لمقارعته.
جرت معركة كبيرة بالقرب من مدينة "حماة" سميت معركة "مكسر الحصان" وذلك عندما كان "هنانو" في طريقه إلى شرق "الأردن" لاستقدام دعم عسكري، وقد استشهد العديد من الثوار في تلك المعركة، وكانت القوات الفرنسية تسعى لأسر "إبراهيم هنانو" حياً ومحاكمته لكنه نجا.
ومن المفيد أن نذكر أن رحلة "هنانو" إلى "الأردن" أخفقت في تحقيق مراميها بعد أن رفض الأمير "عبد الله" في ذلك الوقت تقديم المساعدة له، فتوجه "هنانو" من هناك إلى "فلسطين" التي كانت محتلة من قبل "الإنكليز"، وفي مدينة "القدس" تم اعتقال "إبراهيم هنانو"، وتسليمه إلى القوات الفرنسية في "سورية" التي وضعته في السجن المركزي في "حلب".
قدم "إبراهيم هنانو" إلى المحاكمة، وقد طالب المدعي العام الفرنسي بمرافعته الطويلة إعدام "هنانو" ومما جاء في معرض مرافعته:
«لو كان "لإبراهيم هنانو" سبعة رؤوس، بعدد جرائمه، لطلبت إعدام رؤوسه السبعة، ولكنه لا يملك إلا رأساً واحداً».
لكن المحكمة خوفاً من تصاعد الثورة وخوفاً من غضب الشعب وهي تدرك حب الشعب "لهنانو" واحترامهم لتوجهاته الوطنية والثورية قررت براءته.
تحول "هنانو" بعد ذلك للعمل السياسي، وقد واصل محاربة الفرنسيين بالكلمة والرأي والتوجيه، وكان علماً حراً حريصاً على تطوير قدرات الشعب من خلال التعليم والتمسك باللغة العربية الأم التي حاول الفرنسيون بكل الطرق أن يضعفوا من قيمها الحاضنة لانتماء العرب.
توفي "إبراهيم هنانو" عام 1935 ودفن في مدينة "حلب" بعد صراع مع المرض، شاهداً على إرادة شعب "سورية" على رفض أي شكل من أشكال الاحتلال، وشاهداً على قدرة الشعوب على التصدي لأعداء الشعوب.
رحم الله "إبراهيم هنانو" ورفاقه الأبطال الذين رسموا لنا الطريق، وعلمونا قيمة التضحية.