تغوص هذه الرواية عميقاً في ثالوث البنى المركَّبة من الاجتماعي، السياسي، الديني، وتكشف توضعات العفن وأصوله وتشعباته في قاع الحياة الريفية خلال أربعينيات القرن العشرين. لقد تراكمت الأكاذيب في قرية المغارة حتى غاص فيها الفلاحون إلى ركبهم وآذانهم.
ولم يكن (البك) قادراً وحده على تحويل سكان القرية إلى قطيع مسلوب لولا مساعدوه الذين وضعوا أنفسهم في الجاهزية الكاملة لخدمة مآربه رغم أنهم مطَّلعون على قذاراته، لكنّه كان دائماً يُحلِّي أضراسَهم، ويغدق عليهم، فالمصلحة متبادلة.
كومةَ إنتاجٍ متحركة يعتبرهم (البك)، وحشاً حيوياً عملاقاً يحلب في قِدره، آلة كبيرةً تتنفس بأذرع لا تحصى تدر عليه الفوائد
* الإسقاط الروائي:
على الرغم من أن الكاتب يركب حافلة التاريخ، ويمضي إلى مرحلة الإقطاع، لكنَّ همَّه الأول- على مايبدو- ليس إنتاجَ روايةٍ تاريخية، وإنما يسعى إلى استخدام مرايا التاريخ، ليرينا أجزاء من الراهن العربي الذي بات ينكفئ إلى الوراء، ويغرق من جديد في الوهم والغيبوبة والاستلاب.
ويستفيد عبد العزيز الموسى من خبرته الروائية لتحقيق هذا الهدف، ويبدو ساعياً إلى تطويرها، فهذه الرواية هي الخامسة في إنتاجه بعد (عائلة الحاج مبارك) /1996/، (بغل الطاحون) /1998/، (الغراب الأعصم)/1999/، (جب الرمان)/2000/.
* حكاية الجوخي:
هو أحد الأولياء المزعومين، له في نفوس الفلاحين مكانة خاصة، ولكي يبرز الكاتب أهميته في مجريات الواقع الروائي أطلق اسمه أولاً على الرواية، وجعل مقرّه ثانياً في أسفل المنحدر البركاني الذي يقوم في أعلاه قصر (البك) المتحكّم بما يحيط به من بساتين و(حواكير) قرية المغارة – مكان الأحداث- أي أنه استعمل الجغرافيا استعمالاً رمزياً ليقول: إن الجوخي- بالحالة التي يمثّلها- قاعدة وأصل لما فوقه ولما حوله.
ومن الإشارات الدالة وجود عدد من أشجار البلوط أمام المزار، وكأن هذه الفصيلة من الشجر المتصفة بالرسوخ تومئ إلى رسوخ حالة الجوخي، واستمرارها في الواقع العربي.
* البنية السردية:
اعتمد الموسى بنية سردية ليست منقطعة الصلة مع تقاليد السرد العربي، وليست متقوقعة في داخلها أيضاً، لكنّها تسعى للتطوير المتزن أو لتحقيق خصوصية الأسلوب بعيداً عن ركوب رياح الصرعات والتقليعات. إنَّ سرده يعتمد الجملة الطويلة غالباً، وهو سرد متماسك بروابط معنوية، متواصل الهوية عبر الفصول كلها، قد تتنوع سطوحه كتنوع التضاريس في البيئة الجغرافية، لكنه ينتمي في النهاية إلى أرض واحدة، وقد يلتفُّ مع مسارب الأزمنة، لكنّه يبقى متحركاً بثقة كنهر يعرف مجراه، ومن الملاحظ أن لغته قد تلجأ إلى الاستعارة والمجاز، لكنّها ليست منشغلة بنفسها.. يقول واصفاً تعامل (البك) مع الفلاحين:«كومةَ إنتاجٍ متحركة يعتبرهم (البك)، وحشاً حيوياً عملاقاً يحلب في قِدره، آلة كبيرةً تتنفس بأذرع لا تحصى تدر عليه الفوائد».
تنتمي هذه الرواية بوضوح إلى الخط الواقعي الذي يقوم على نقل الواقع بحالاته، وشخصياته، وتفاصيله نقلاً موضوعياً حتى إنَّ الكاتب مطالَبٌ بأن يكون منصفاً مع مايكره.. يبرز لنا مبررات الفاسدين، والظالمين، وأعداء الإنسانية، وأول ما نلاحظه أن عبد العزيز الموسى يجرح حياديته بشكل مبكر عندما يصف في أول الرواية وظائف الجوخي التي استقرت في قرية المغارة، فيلجأ إلى السخرية، والسخرية- كما هو معروف- تتضمن موقفاً:(( ولي الله الجوخي متعدد المهام والاختصاصات، فهو للبشر وللبهائم وللربو والحبل ووجع الظهر والأبو صفار)).
ويترك السخرية إلى التحليل، ولكنَّ تحليله يتجه إلى المصب السابق ذاته، أعني اللاحيادية ((الناس بطبعهم ميالون لتضخيم كراماته، مؤملون في سرهم أنه بديل جاهز يقظ يضفي القداسة على عجزهم)).
لكنَّ الخط البياني للمصداقية يرتفع سريعاً من خلال ما يلي:
1- تصوير الخديعة التي تمدُّ جسدها الأخطبوطي فوق المغارة كلها.. حتى إنها تسللتْ إلى عيون الناس وحواسهم، فهم يصدِّقون كلَّ ما يُقدَّم لهم -عبر (البك) وجوقته- من أوصاف جاهزة لما يجري في القرية، ويكذِّبون أنفسهم دفاعاً عن حياة لم يعد بينها وبين الهوان أيُّ فرق. من أكبر الخُدَع التي بلعها الناس في المغارة أن "رحمو" استشهد في موقعة الجرن بين فلاحي المغارة وبدو الحجيرات، ونُسبتْ إليه مراجل ومواجهات استغربها سكان القرية، وحتى أهله العارفون بطبيعته الضعيفة، ثم صدَّقوها، والحقيقة أن "رحمو" قضى بيد "شعبو" النهم جنسياً الذي تربطه بأخته الهندية علاقة جسدية، فكان التخلص منه مفيداً من هذه الناحية، وهو أكثر فائدة للبك الذي دبَّر الحادثة، ثم استغلها استغلالاً ذكياً ليفوز بحقل الجرن المتنازع عليه، فلم يكن الطابو غيرَ دم "رحمو"!
2-الدخول عميقاً في وصف البيئة حاملة الحدث الروائي وصفاً أساسه المعرفة التفصيلية والتماهي بالمواقف والشخصيات «"أموّن" تعاين من مكانها سخلات "أم سرحان"، حقلَ الفول، دجاجات "عيوش" العائدة من الزرع، نشيشَ الرطوبة كبقع البرص الواضح على الجدران الطينية المتقشّرة… دوربَ المغارة المعجوقة بأظلاف الماعز وحوافر الخيول والأبقار العائدة من مراعيها».
3- تقديم القسم الأكبر من شخصيات الرواية محلَّلة تنطوي دواخلها على أبعاد كثيرة.. أي أنها شخصيات حية تنتمي إلى الوسط الذي نبتت فيه، وليست مجرد أفكار: شخصية (البك)، "أمون الحمدو"، "عصمان"، الشيخ "علي"، "رياض"، "مراد"، "حسان"، "أبو دهام"، "حميد السطام"، وسواهم.
4- قصص جانبية تتمتع برصيد عالٍ من الصدق والواقعية تفرعتْ من نهر الحدث الرئيسي، وظلت مرتبطة به، متفاعلة معه في الوقت نفسه، وفضلاً عن مسألة المصداقية، فقد أغنت هذه القصص السياق الروائي بالامتدادات الحيوية كقصة "شعبو" و"الهندية"، والإشارة السريعة إلى قصة "رياض" وزوجته حيث قامت بالتواطؤ مع أهلها، فاستولتْ على عقاراته بعد أن تراجع عزمه الجنسي معها، فغدت ماركسيات "رياض" تتغذى بحقده العاجز.
من الجوانب السابقة وغيرها تنسج (الجوخي) عالماً روائياً حقيقياً يعطيه عبد العزيز الموسى نكهته الخاصة، ورغم أن الرواية تضع أرجلها على أرض الواقع الصلبة، إلاَّ أنها وهي توغل في هذا الواقع تجعلنا نكتشف غرائبيته، وما فيه من فظائع واستبداد، وخداع، يقابلها من جانب الناس سكوت، وخضوع، ورضى، ومشاركة في التبرير أيضاً.
رواية الجوخي 127 صفحة.
صادرة عن دار الشموس بدمشق عام 2002