«وعلى جناح "اللقلق" المكدود يرحل صامتاً من غير حبرٍ... يضمن البطيخ قرب السيد "الجوخي" يستكري بأيام القطاف عجائز من "ترملا"... وبظهر كلّ خسارة يأتي على "بغل من الطاحون" يطبع عند "كرزون" رواية».
والمطلع لقصيدةٍ للشاعر "عبد الرحمن الابراهيم" قالها في حفل تكريم الروائي "عبد العزيز الموسى" الذي أقيم عام /2008م/وهي تحكي حكاية "الموسى" شعراً، هذه الحكاية التي تتناول مرحلة عمله بـ"ضمان البطيخ" والتي انتهت كما قال "الموسى":
أنا أقول إنه الجذر الروائي الكوني الذي لا يمكن أن يتجاوزه أدب في العالم على الإطلاق من "تولستوي" وديستيوفسكي"، و"غوركي"و"تشولوخوف" و"أتماتوف"
«كوّمت الخيم مع أعمدتها، وأعطيتها النار، ثمّ جلست على تخم قريب أحتسي الشاي، وأراقب ألسنة اللهب، ولم أرقص أو أعزف الغيتار "كزوربا" بل اكتفيت باحتساء الشاي، خسرت كلّ شيء ووصلت ديوني إلى ما يزيد على /نصف مليون ل.س/، وحينها فقط قررت أن أكون كاتباً».
يقولها "عبد العزيز الموسى" ساخراً، لموقع eIdleb حين التقاه في منزله الكائن في مدينة "كفرنبل" يوم 15/3/2009م وتابع عن تلك السنوات بقوله: «بدأت مهنة التعليم، ثمّ حصلت على إجازة في الفلسفة، وعيّنت بعد جهد مدرساً لها منذ عام/1977م/وحتى عام /1992م/، ولم أحصد سوى الفقر والامتعاض، فقدمت استقالتي وبدأت أضمن (مقاتي البطيخ)»- هل تصدّق (يتساءل) "الموسى"؟- «إنني كنت أحسب احترام المارة لي حين كنت أصادفهم في شوارع "كفرنبل" كان بسبب سنوات التعليم والتدريس التي قضيتها، لكنني اكتشفت فيما بعد أنّ احترامهم لي زاد بسبب شطارتي بضمان البطيخ، لقد زاد احترامهم لي فقط لأنني "ضمّان بطيخ ناجح"».
"عبد العزيز الموسى" الروائي والساخر والمدرس وضمّان البطيخ كما يقول قدم استقالاته المتتابعة لتكون استقالته الأخيرة من الكتابة عام /2002م/ بعد أن اكتشف أن عدم وجود مهنة هو أفضل مهنة، «فالحالة التي تحقق الانسجام مع النفس لا يكتشفها الإنسان إلا متأخراً. لقد تصالحت أخيراً مع ذاتي في الطبيعة فما يكاد يوم يمر إلا وأمضي إلى الجبل لتأمل الأفاعي، والواويات والنمل، والصخور، والأشجار في محاولة لكسب رضا النفس»، ثمّ يصمت.
«لقد أسقطت كلّ القشور المعدّة للسوق والمجتمع لأعود لنفسي، وأتصالح معها، وأجدني اليوم مثل الطفل المتعالي عن كلّ الصغائر والنقائص التي تعطل قدرته على العيش والمتابعة».
"عبد العزيز الموسى" صاحب رواية "كاهن دورا" التي فازت مؤخراً بجائزة مجلة "دبي الثقافية" هذه الجائزة التي مكنته من اقتناء سيارة صغيرة، يهرب إلى الطبيعة ليمني النفس هناك في الجبل بأن يوماً سيأتي، ويجيد فيه الغناء (والدبكة).
فليس من يضاهي "زوربا" حين يرقص على أنغام غيتاره، ولا من يضاهي "الموسى" حين يمني النفس بتعلم الدبكة، لأنه وباختصار يحسد كلّ من يجيد الغناء أو الرقص.
فيقول: «فحين أشاهد الراقصين أحسّ أنهم يتخلصون من كلّ آلام العصر من قهرٍ وحزن وهمٍّ بممارسة هذه الطقوس الرائعة، فالجسد أجلّ مظاهر التعبير وهو اللغة الأكفأ في التوصيل، وحين يرتبط بالصوت والحركة تكون قدرته على الآداء عالية جداً، ويبدو أنّ "الآلهة" قديماً فهمت هذه اللغة الجميلة التي أجادتها الشعوب في الأزمنة الغابرة بمظاهر من الحركة والميلان ثمّ الرقص والدبكة لطرد الأرواح الشريرة واستحضار الأرواح الخيّرة والفأل الحسن، باختصار الإنسان القديم كان أكثر صدقاً مع تفاصيل جسده وبناه النفسية وأكثر ما تظهر هذه الحالة الروحانية في جسد المرأة الذي هو قصيدة، أو سمق جمالي مطواع.
والدليل أننا حتى اليوم نتعامل مع الرقص الشرقي بحضور عال كما لو أنه حالة داخلية روحية لا تمت للتفاصيل الحوشية الغبية التي يتعامل بها الناس العاديون فحين تنظر إلى الراقصة الشرقية تحسّ بحالة روحية عميقة ويبدو أنّ هذا يرجع إلى الرقص التعبدي الغابر».
ولأنّ الجسد مطواع في الرقص والرقص يكشف عن التفاصيل الدقيقة كما هو الأدب حين يكشف عن التفاصيل الناعمة عشق "عبد العزيز الموسى" أدب أمريكا الجنوبية لميله الواضح بمتابعة التفاصيل الناعمة والجميلة في الحياة وبعفوية سحرية رائعة، رغم أنّ السبق في ذلك كان في رواية "الزمن الضائع" للفرنسي "مارسيل بروست".
و"همنغواي" قال مرّة في مقالة له نشرتها مجلة آداب أجنبية أنّ "ديستويفسكي" هو الأب الروحي لأدب أمريكا اللاتينية و"الموسى" أيضاً رغم عدم وجود ما يفرق بين الأب والجذر فكلاهما يمتصّ من الحياة ومن عروق الأرض لتكتمل دورة طلوع الشمس على عوالم جديدة.
يقول "الموسى": «أنا أقول إنه الجذر الروائي الكوني الذي لا يمكن أن يتجاوزه أدب في العالم على الإطلاق من "تولستوي" وديستيوفسكي"، و"غوركي"و"تشولوخوف" و"أتماتوف"».
هذه هي بعض الملامح من عوالم "الموسى" الساخرة والضاغطة بقوة على الكفّ لتشدّها عن القهر والحرمان ولتشير لصاحبها بعد ذلك إلى رواية "الغراب الأعصم" بما تحمله من شحنة حنين عالية لـ"كفرنبل" وفضح للقوى المتحالفة على تصفية الإنسان وهي بما تمثله من صراع بين ثلاثة محاور بين من يمتلك بعد إنساني عال جدا من إيثار ونخوة، وبين من امتطى موجة التحولات وجمع ثروات من السرقة والرشاوي، إضافة للمتطرفين والأصوليين وكلاهما السارق والمتطرف اتفقا على تصفية الإنسان هي الأقرب لفهم أمنيات "الموسى" بتعلّم الرقص والدبكة ليسخر ولو لمرّة واحدة من الكاهن في "دورا" كما الشيخ في "خربة عوّاد" كما كلّ المستغلين بتسمياتهم المتعددة وبوجوههم المتغيّرة.
ومن الجدير بالذكر أنّ الروائي "عبد العزيز الموسى" من مواليد مدينة "كفرنبل" /1946م/الواقعة غربي "معرة النعمان" بعشرة كيلومترات تقريباً. له من المطبوع خمس روايات أولها "اللقلق"، ثمّ "عائلة حاج مبارك" وقد فازت بجائزة "نجيب محفوظ" المرتبة الثانية، و"الجوخي"، و"بغل الطاحون"،"جبّ الرمان"، وله أيضاً ثلاث مخطوطات منها رواية "كاهن دورا" وهي الفائزة بجائزة "مجلة دبي الثقافية"، وكذلك "مسمار السماء" وهي قيد الطبع.