أصدر القاص الإدلبي "خطيب بدلة" عدداً من المجموعات القصصية، تنتمي جميعاً إلى عالم السخرية، وفي عام 2006 أضاف مجموعة جديدة صادرة عن دار "نون-4" في "حلب"، وسيكون هدف هذه المقالة تحديد أهم تقنيات السخرية التي اعتمدها الكاتب في نصوصه.
ولعلّّ التقنية الأولى تكشف لنا عن نفسها في العنوان العام للمجموعة، وهو"إمبراطورية المجانين الديمقراطية العليا"، فالمجانين الذين لا يملكون في الواقع أيَّ شيء ولا حتى أمر أنفسهم نراهم هنا أسياداً على إمبراطورية مترامية الأطراف، وإمبراطوريتهم الخنفشارية تنعم بصفتين هامتين براقتين: "الديمقراطية" التي لا يتمتع بها كثير من العقلاء، وعلو الشأن الإمبراطوري الذي لم يصل إليه أحد، وقد عبَّّر الكاتب عن علُّوهم الرهيب الفذ بكلمة "عليا" المصوغة على وزن "فُعلى" التفضيل.
كنتُ أجهِّز لنفسي إبريقاً من الشاي الخمير مملوءاً إلى حد أن الذبابة تستطيع أن تقف على حافته العليا، وتشرب منه دون أن تحني ظهرها!
ولذا فنحن ننفلت بالضحك منذ البداية، ويزيدنا ضحكاً أنَّ هذا العنوان الطويل يتضمن- فيما أظن- إحالةً إلى اسم دولة في العالم الثالث كانت تقاوم الاستعمارَ لا بالصاروخ والدبابة، وإنما براجمات الكلام.
* الاستهلال ودلالته:
قبل نصوص المجموعة نجد استهلالاً أطلقَ عليه الكاتب: "ما يشبه المقدمات"، يتحدث فيه عن ولادة البذرة الأولى لكتابه عندما كان مسافراً في سيارة مع الفنان "عمر حجو" الذي كان يتعمد مخاطبته بعبارة: "يو خاي"الإدلبية، ويندرج هذا الاستهلال ضمن تقنيات السخرية، فالكاتب -عبر سرد حادثة مرحة- ليست بريئة من اللَّعب الفني يجعلنا شهوداً على تطور مشروعه متعاطفين مع ما فيه من العفوية، كما أنّه بالاستهلال نفسه يفتح شهيتنا إلى ما ينطوي عليه عالم الجنون من المرح والغرائبية، فهو يروي في استهلاله خبرين طريفين: الأول يتعلق بـ"أبو الجود" الذي تظاهر بالجنون، ليتمكن من الفرجة على العصفورية، فنال عضةً ضخمة على ساعده من نوع "قفل ومفتاح"، والثاني يدور حول المجنون الفيلسوف "أبو عبدو"، وهو يفكر في أن يبعث رسالة إلى "أمل عرفة" باسم الحب والحنان، ولعل الأهم من الأمرين السابقين أنَّ الاستهلال يرسم خطَّ سير الكتاب نحو الجنون بنوعه الناجم عن الأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي ستكون هدفاً لسخريات المؤلف.
1-خلقُ حاضنةٍ خفيفة الظل لمجمل الأحداث هي العصفورية، وهذه الحاضنة تقع في مكان موهوم لا معلوم يركض القارئ وراء حدوده، لكنها تنزلق من يديه، فهي جغرافيا خيالية مخصصة لعالم الجنون الذي ينزلق فيه كل شيء، هذه الجغرافيا الخيالية العجيبة كانت تشع على طول نصوص الكتاب إشعاعاً حلواً مرحاً، وتضخ شحناتٍ من الإثارة في الدورة الدموية للقصص، فضلاً عن أنها شكَّلتْ لتلك القصص سلكاً ناظماً متيناً.
2-استثمار الحكايات والأخبار الشفوية المرحة استثماراً فنياً، يختزن هذا النوع من السرديات الإخبارية طاقةً حية تتمثل في الإيحاء، والرمز، والانفتاح على الوجدان الشعبي، وحرارة المغزى القريب من الحِـكَم السائرة، ويزيد هذه السرديات فاعليةً خصوصيتُها الكوميدية التي تحمل إلى قلب المتلقي شحنةً من البهجة لا تحملها السرديات الجادة، لذا يمدُّ القاصون الساخرون أيديهم إليها، ويغترفون منها، وهي بخصائصها السابقة تطاوع مقاصدهم، وتقدِّم لهم خدماتها، أما طريقة استثمار هذه الحكايات، فتختلف من قاص إلى آخر، فبعضهم يجعل الحكايةَ المروية هي النصَّ كلَّه بعد أن يقوم بصياغتها صياغةً معاصرة تحقق مراميه، وبعضهم يجعل الحكاية جزءاً من نصه الخاص، أو مفصلاً من مفاصله تقوم بمهمات التمهيد والتشويق والمساعدة للنص المركزي.
وربما استعان القاصون من هذا الفريق الأخير بأكثر من حكاية متشابهة يجمعونها في عمل واحد بمهارتهم مبتدعين وصلاتٍ فنيةً مناسبة نشعر معها بأننا أمام شبكة من النصوص المتفاعلة المتراسلة بانفتاح بعضها على بعض.
في قصة "حمَّام عراقي لمجنون أمريكي" من هذه المجموعة نجد أنفسنا أمام شبكة حكائية من النوع المومأ إليه، فالقصة تتضمن ثلاث حكائيات، ولكل حكائية مجنونهل، الحكائية الأولى بطلها رجل مجنون باستعراض قوته البدنية، دخل إلى الحمَّام، فراح يلكز الزبائن، ويقرصهم في مؤخراتهم، فنال من صاحب الحمام عقاباً لا ينساه، والحكائية الثانية بطلها رجل يتظاهر بالجنون، أراد أن يحتل الحمام، فدخله متخلياً عن لوازم العفة، صارخاً بالمستحمين، فخرجوا خائفين مولولين: في الحمام مجنون! غير أن رجلاً جالساً في الخارج يعاني من القرف في حياته دخل على المجنون الأول وهاجمه بعنف، فخرج الأول مستغيثاً:
"دخيلكم" الحقوني، في الحمَّام مجنون!
والحكائية الثالثة وهي المركزية التي آلتْ إليها فواعل الحكائيتين السابقتين بطلها مجنون عالمي خارق الجنون هو "المستر دبليو بوش"، هذا المجنون اقتحم الحمَّام العراقي لإخافة شعب العراق، فتلقى في الداخل حماماً فيه أعلى درجات الدعك والتلييف!
3- المداورة والإلغاز الكوميدي يقال: ألغزَ في كلامه، أي استخدم اللفَّ والدوران لغاية في نفسه، وتستطيع هذه التقنية التي اعتمدها الكاتب في بعض نصوصه أن تجعل من القصة مساحةً تلعب فيها الأفكار والتخمينات في فضاء من المرح، ولعل القارئ مع هذا الأسلوب يجد خيوطَ التشويق تتكاثف من حوله، وتجعله أكثرَ ارتهاناً للنص وانشغالاً بالكشف عن مداوراته وألغازه. في القصة المعنونة "حكاية الرجل الذي طق عقله" يعرض المدير العام للعصفورية على مجانينه شريطَ فيديو عن حالة المجنون الجديد القادم إلى عصفوريتهم، في الشريط صورة للمجنون ووراءه زوجته المولولة وهي تتحدث رشاً إلى رئيس المخفر كيف طق عقل زوجها، كلامها سريع مختلط، يريد مدير العصفورية من مجانينه أن يتشاطروا، ويحزروا ما هو؟ يقدح زملاء الجنون زنادَ أمخاخهم، فيرى الزميل رقم1 أن زوج المرأة جن لسبب اقتصادي، فبعد أن قبض راتبه، ودفع الفواتير والضرائب المترتبة عليه وجد جيبه فارغاً، فطق عقله.
ويرى زميل الجنون رقم2 أنَّ زوج المرأة كان يقرأ في جريدة عن بلد منكوب شمَّر عن يديه ورجليه لإصلاح أوضاعه، لكنه أسند العملية الإصلاحية برمتها إلى الفاسدين أنفسهم، فطق عقل الرجل، ويستمر زملاء الجنون في تقديم آرائهم لا يمنعهم من المتابعة إلا حدوث أمر يشبه اللغز يراه مدير العصفورية، ولا يطلب منهم أيَّ تفسير له، وهو أنَّ رجال المَفرزة يقتحمون المكان، ويلقون القبض على زميل الجنون رقم2!!
4- توظيف المفارقة اللفظية في التأسيس لموقف ساخر هذه تقنية شائعة في كل أجناس السخرية، القصصية منها والمسرحية والشعرية، وقد يأتي استعمالها شكلياً تجارياً لاستدرار الضحك وخلقِ حالة من البهجة المفتعلة بعيداً عن أصالة الفن والأدب، وقد يأتي استعمالها في صورة صحية، إذ تكون مفتاحاً لتفجير مكبوتات اجتماعية أو سياسية في نفوس المتلقين، وهم امتداد للنص المفتوح على مشاكلهم ومعاناتهم.
يفاجأ المجانين في قصة "اليوم العالمي للتطهير" بنشاط محموم وتحضيرات قائمة على قدم وساق في عصفوريتهم، فترتجف قلوبهم رعباً حتى يظن أحدهم وهو المجنون "أبو نبيرة" أنَّ إدارة العصفورية ستصفُّ جماعةَ المجانين كلِّهم عند الحائط، وتوعز إلى فصيل الإعدام أن يرشَّهم بالرصاص، لكنَّهم يتعرضون إلى رشٍّ من نوع آخر، إذ يعتلي رجل المنصة ليثقِّفهم، فيوجه إليهم خطاباً دسماً لم يفهموا منه سوى كلمة: "تطهير" تطهير الأوطان من المؤامرات المحبوكة، تطهير المجتمع من فئران الرجعية، تطهير في الليل في النهار! أمسك زميلهم في الجنون "نواف الحكولة" وسطه، ثم سقط مغشياً عليه، فقد تصور أنَّ عملية التطهير التي أجراها له أبوه أيامَ الطفولة ستعاد له مرة ثانية في كبره!!
5- تقديم بعض القصص في جو فانتازي مضحك، وليس أصلحَ من الفانتازيا لمقاربة الجنون، فالمجانين رؤوسهم تشتغل بعكس عقارب الساعة، ويزعجهم الهدوء والنظام، وقد يشوِّبون في الشتاء، ويبردون في الصيف، وقد يرون أنَّ الأرض يجب أن تكون فوق، والسماء تحت، وهاهم في قصة "تنكيت المجانين في أشهر الكوانين" يختارورن جواً بارداً ماطراً ليلقوا فيه خطاباتهم ونكتهم، فقد توزَّعوا تحت المزاريب الدافقة في ساحة العصفورية لتنفتح قرائحهم، ولينطبق عليهم المثل القائل «انتقل من تحت الدلف إلى تحت المزراب».
6- ابتداع تفصيلات كاريكاتورية غير مجانية، وهي بالغة التأثير في رسم شخصيات المجانين ومسلكهم الملتوي من ألفه إلى يائه، وبدون هذه الخطوط الصغيرة تضيع الخطوط الكبيرة للعمل كلِّه، فهي كالخوافي قوة للقوادم، أمثلة:
أحد المجانين عند التدخين يقوم بربط ثلاث أو أربع سجائر بخيط من المطاط، ويشعلها، ويبدأ بالشفط منها مراهناً على تدخينها جميعاً دون سعال.
أحد المجانين يروي كيف كان يعدُّ الشاي قبل إدخاله إلى العصفورية:«كنتُ أجهِّز لنفسي إبريقاً من الشاي الخمير مملوءاً إلى حد أن الذبابة تستطيع أن تقف على حافته العليا، وتشرب منه دون أن تحني ظهرها!»
فريق المجانين في مبنى العصفورية المتحدة يستقبل المجنون "أبا مرداس" الإدلبي بعَراضة من نوع خاص، فيمسك المجنونان الأزليان "أبو نبيرة"، و"أبو عبدو الطشنة" فيما بينهما بطرفي حبل يشبه جديلة صبية مصنوع من أنابيب البصل الأخضر، ويطلبان من "أبي مرداس" أن يمشي وراء الحبل، بينما يروح زميلهم "أبو الدعبولة" يضرب بقبضة يده الضخمةعلى الثلاجة العتيقة المرمية قرب المدخل مصدراً إيقاعاً كإيقاع الطبل!
7- الإيحاء بتبادل المواقع بين المجانين والعقلاء، ولعلها التقنية الأهم، ومن خلالها يظهر بيت القصيد من الكتاب كلِّه، فالمؤلف من طرف خفي يجعل المجانينَ رغم تخبطاتهم الظاهرة، يتكلمون بجرأة عن الأخطاء والأمراض الاجتماعية والسياسية في المنطقة العربية. أما العقلاء فهم على الرغم من منطقهم الشكلي، يتعايشون مع الأمراض، ويسكتون عن أسبابها، وقد يصفِّقون لصانعيها في مجتمعاتهم، أي أننا أمام عقل مقلوب، وجنون مقلوب، ولا نستطيع أن نفهم مراد القصص البعيد إلا إذا استوعبنا هذه الوضعية المقلوبة، وصححنا داخل رؤوسنا ما يجب تصحيحه كما يصحح المخ الصور المعكوسة التي تدخل العين ليتمكن الإنسان من الإبصار.
أخيراً.. إنَّ "إمبراطورية المجانين" عمل قد يزعج ذائقتنا التي اعتادت القص ضمن نظام فني معين، لكنَّ نصوص الكتاب تتسلل إلى قلوبنا، وتضعنا في مهبِّها الخاص لما فيها من الصراحة وإسقاط أوراق التوت وقول ما لا يمكن قوله إلا من وراء ستار الجنون.