شغف بالموسيقا كما بالفيزياء، فبينهما رابط جوهري يعرفه كل من يتذوق الموسيقا ويتعلمها، ومكّنه هذا الربط من فك شيفرة أقدم مقطوعة موسيقية وجدت حتى الآن في تاريخ البشرية في "أوغاريت".
ولد المفكر والموسيقي الراحل "راؤول غريغوري فيتالي" في "اللاذقية" في 12 شباط 1928 من والدين من عائلة "فيتالي" التي تقيم هنا منذ بداية القرن الثامن عشر وتنحدر من عائلة فيتالي الإيطالية المعروفة، درس في مدارسها ونال الثانوية في مدرسة "الأرض المقدسة" (ثانوية زكي الأرسوزي حالياً)، وتابع دراسته الجامعية في "الجامعة الأميركية" في "بيروت" فنال شهادة البكالوريوس في الفيزياء الكمومية عام 1949، وقام بتدريس الفيزياء فيها وفي "الجامعة اللبنانية" سويةً لسنوات قبل أن يسافر إلى "فرنسا" لإكمال دراسته، ولم يبق هناك كثيراً فعاد إلى بيروت إذ "لم يناسبه الجو" كما كان يقول لأصدقائه.
إن "اللاذقيين" هم الأقدر على استيعاب اللغة الأوغاريتية وفك رموزها، لقربها من لهجتهم حيث ماتزال مفرداتها تعيش بينهم
تحدث لمدونة وطن "eSyria" بتاريخ 20 كانون الأول 2013 ابنه الأصغر "رامي فيتالي" قائلاً: «في عام 1968 تزوج من الآنسة اللبنانية "نايلا عازار" وأقام في بيروت، وبعد عامين نال شهادة الماجستير من الجامعة التي يدرّس فيها، ومع بداية الحرب الأهلية في "لبنان" عاد إلى "اللاذقية" ليستقر فيها مطلع عام 1975، مع أنه لم ينقطع عن "اللاذقية" بل عاش متنقلاً بينها وبين "بيروت".
اهتم بالموسيقا منذ صغره، فتعلم الغربية والكنسية منها، وشكلت "رابطة أصدقاء أوغاريت" ملجأه الفكري اليومي، ولاحقاً أسس مع الراحل "جبرائيل سعادة" جمعية "العاديات" في "اللاذقية" وبقي رئيساً للجنتها الثقافية لسنوات طويلة».
المساهمة الكبرى للراحل تجلت في إعادة ترتيب "السلم الموسيقي البابلي" الذي حير علماء الموسيقا والآثار سوية ولسنوات طويلة، فمنذ اكتشاف 36 رقيماً طينياً في "أوغاريت" عام 1957 بدأت محولات فك محتوياتها التي اتضح للعلماء بعد محاولات حثيثة احتواؤها على أقدم تنويط موسيقي في العالم.
المشكلة الكبرى التي واجهت جميع من حاول فك الشيفرة، كما يقول كتاب "A Hurrian Musical Score from Ugarit" لمؤلفه الموسيقي "Marcelle duchesne-guillemin" الذي ساهم في محاولات فك أسرار الرقيم المذكور ولأربع محاولات تكمن "في أمرين: الأول طريقة العزف المفترضة على السلم الموسيقي البابلي الذي لا يعرف مدى قربه أو بعده عن السلم الموسيقي الحديث، والثاني زمن النغمات وفواصل الصمت بين النغمات إضافة إلى المقدمة والخاتمة" (ص 8 من الكتاب).
ويقول صديق الراحل الباحث الأثري "سجيع قرقماز": «إن صورة الرقيم تقول إنه عبارة عن إشارات ٍموسيقية ، وكلام ٍشعري، وما إلى ذلك ، لكن علماء الأثريات الغربيين لم يصلوا إلى المعرفة العلمية الدقيقة لمحتوى هذا الرقيم، حتى جاء دور ابن اللاذقية (راؤول فيتالي) المهتم بالفيزياء، واستطاع معرفة تفاصيل الرقيم الفيزيائية، وفك معظم أسراره، حيث اتضح له أن الرقيم عبارة ٌعن نشيدٍ دينيٍ باللغة الحورية، على الوجه الأول من الرقيم، بينما يحوي الوجه الثاني طريقة عزف وغناء هذا النشيد، أي باختصارٍ شديد، وبلغة عصرنا التنويط الموسيقي».
تم عزف المقطوعة الموسيقية للمرة الأولى خلال الاحتفال بذكرى ذهبية اكتشاف "أوغاريت" عام 1979 في قصر البلدية في مدينة "اللاذقية" من قبل الموسيقي "زياد عجان" الموجه الاختصاصي لمادة التربية الموسيقية في "اللاذقية" الذي عزفها على البيانو بإصبع واحد أمام جمهرة من علماء الآثار الغربيين والسوريين من بينهم العالمة "آن كيلمر"، وقد أذهلت الموسيقا الحاضرين واعتبرت هذه المحاولة هي المحاولة الأنجح في تاريخ البحث عن ترجمة لهذا الرقيم، ومن بين العلماء الذين أطروا لهذه المحاولة الناجحة قبل العالمين "ويست" و"أو. ر.غيرني".
وقد قام الباحث الراحل، كما يقول ابنه "رامي" بنشر بحثه في العديد من المجلات العلمية والأكاديمية الرصينة، فنشر بحثه الموسيقي للمرة الأولى في مجلة "الحوليات الأثرية السورية" المجلدان 29 و30 سنة 1979 و1980 (باللغة الفرنسية)، و في الدورية الأثرية "أوغاريت فورشونجن" UGARIT FORSCHUNGEN عدد 14 سنة 1982(باللغة الألمانية) و في مجلة "الحياة الموسيقية" العدد 2 سنة 1993 والعدد 6 سنة 1994 باللغة العربية.
ولم يتوقف الباحث عن اجتهاداته التاريخية والأثرية، فأسهم مع باحثين آخرين في ترجمة ملحمة (أقهارت) التي تعدّ بمثابة ملحمة الخلق الأوغاريتية وشارك في العديد من الندوات العلمية والمهرجانات الثقافية، كما كتب العديد من البحوث والمحاضرات في مجالات مختلفة من بعض عناوينها:
"بدايات الموسيقا – شعب بني يمين – الكنعانيين – علاقة الدين بالموسيقا في أيام أوغاريت – علماء الموسيقا العرب - العرب في سورية قبل الإسلام - التناظر الشكلي وترتيب الأحرف الأوغاريتية - الرقم عبر التاريخ واختراع وتطور كتابة الأعداد - ساميين أم لا - أوغاريت لا كنعانية ولا فينيقية”.
أتقن الراحل عدة لغات رئيسية كالإنكليزية والفرنسية والألمانية، كما أتفن الأوغاريتية، ومن أقواله الشهيرة: «إن "اللاذقيين" هم الأقدر على استيعاب اللغة الأوغاريتية وفك رموزها، لقربها من لهجتهم حيث ماتزال مفرداتها تعيش بينهم».
توفي في 29 أيلول عام 2003 تاركاً وراءه ثلاثة أولاد هم "ألفريد"، و"كريم"، و"رامي" الذي يستعد حالياً لطباعة أول كتاب عن الموسيقا البيزنطية في تاريخ "سورية" وسيصدر خلال العام القادم من "بيروت".