كتب في كثير من المجالات المعرفية فأقلق الراكد الثقافي فيها كلها، وحرك تيارات على امتداد العالم العربي، وبقي صادقاً مع نفسه وقريباً إلى روح الناس بعشقه الأزلي للابتسامة.
تكاد سيرة "بوعلي ياسين"؛ وهو الاسم الذي اشتهر به تشبهه إلى حد كبير، هذه السيرة كتبها في كتابه الجميل "عين الزهور" (1993)، مقدماً فيها صورةً نقلها الرجل بأمانة وابتسامة ليس كسيرة شخصية بقدر ما كانت سيرة "سورية" في تحولاته عبر خمسين عاماً، هي الحياة التي عاشها الراحل مفعماً بالنشاط والحيوية والمرض والصراع على جبهات كثيرة.
لقد كتب عن الكتاب بما يعادل عدد صفحاته تقريباً، وأغلب ما كتب كان معارضاً لما جاء فيه، والقليل منه دافع عنه، مما لا شك أن في الكتاب نواقص ومن عيوبه أن لهجته حادة، ولكن هذه الصدامية ما كانت لتدفعنا لطرح أفكار غير مؤمنين بها، على أن الفترة التي ألفنا فيها الكتاب حيث الركود الثقافي والسياسي، تفسر إلى حد بعيد تلك الصدامية والحدة
ولد "ياسين أحمد حسن" عام 1942 في قرية صغيرة تقع على السفح الشرقي لنهر الكبير الشمالي (22كم عن "اللاذقية")، حملت اسم "عين الجرب" نسبة لعين ماء يقول سكانها إنها كانت تقي من هذا المرض العضال في سابق الأيام، يقول القاص "عصام حسن" في حديث مع مدونة وطن "eSyria" بتاريخ 18 آذار 2015: «لم أعرف شخصاً في حياتي كلّها يملك ما كان يملكه الكاتب والباحث المرحوم "بو علي ياسين" من دماثة الخلق والتواضع والاحترام وحب العمل والالتزام، كتبت قبل اليوم أن ما جمعني معه أهم من صلة القرابة، فهو الأستاذ والصديق والمعلّم، ليس لي وحدي بل لجيل بأكمله، لكن للأسف أجد اليوم أن اسمه غير معروف بين شباب الجيل الجديد ولكثير من الأسباب، لم يكن "بو علي" من محبي البهرجة و"الطنطنة" وملاحقة وسائل الإعلام، بل كان منعزلاً في غرفته يعمل بصمت وينشر الكتاب إثر الكتاب».
يقول في "كتابه "عين الزهور" إن أول احتكاك له مع العالم الخارجي كان عام 1950 حين دخل إلى مدرسة "الراهبات الخاصة" في مدينة "حلب"، وهي تعادل اليوم مرحلة الحضانة، يذكر عن تلك المدرسة "تهديد الراهبات بمسح آذان الأطفال بالزيت وإرسالهم إلى القبو، حيث تأتي الفئران لتلحس الزيت من آذانهم"، ويقول إنه كره التعليم إلا أنه سرعان ما تجاوز هذا الأمر ليتعلم ويعلم لاحقاً هو الآخر.
من "حلب" إلى "حماة" إلى "القنيطرة" تنقلت العائلة بحكم عمل الأب العسكري، وعبر محطاتها هذه خبر الرجل كما يقول في كتابه السابق "المجتمع السوري بتشكيلاته المجتمعية المختلفة، وتعلم التسامح الديني والإنساني"، ويقول: "للقنيطرة فضل تسليحي ضد أنواع التعصب كافة"، الأمر الذي ترك بصمة مهمة على شخصيته ستبقى طوال حياته وإبداعه.
نجح "بو علي" في الثانوية وسجل في جامعة "دمشق" كلية الصيدلة، وكان مقرراً سفره إلى "مصر" لمتابعة دراسته هناك، إلا أن حدوث الانفصال عام 1961 ألغى البعثة، على أن هذا الأمر الذي بدا له نقمة تحول إلى نعمة مع تحول البعثة إلى "ألمانيا الغربية" لدراسة العلوم المصرفية هناك، فسافر إلى هناك في آذار 1962، ليبدأ تعلم اللغة الألمانية في قرية صغيرة ساحرة على أقدام الألب من ولاية بافاريا الألمانية، ثم الاقتصاد الرأسمالي على يد أستاذ ألماني معادٍ للاشتراكية، ويقول في كتابه: "وقد كان هذه الأستاذ بالنسبة إليّ، عملياً من حيث أراد هو العكس، الداعية الرأسمالي الذي هداني إلى الاشتراكية العلمية".
درس "بو علي" العلوم الاقتصادية في جامعة "بون"، وعندما وجد أن هذه الجامعة تهيمن عليها العقلية الاقتصادية الأميركية، كان عليه إما التخلي عن دراسة الاقتصاد والانتقال إلى فرع آخر، أو الانتقال إلى جامعة أخرى أقل عرضة للهيمنة الأميركية، فوجد ذلك في جامعة "ماينتس"، وهي مدينة جميلة يلتقي فيها "الراين والماين"، فانتقل إليها وعاش فيها ما بين 1965-1969.
بعد عودته إلى "سورية" عمل في المصرف المركزي، وانصرف إلى التأليف بعد أن تجاوز عدة محاولات إبداعية، ليصدر أول كتاب له "الثالوث المحرم" عام 1973، وهو الكتاب الذي سيمثل علامة فارقة في تاريخ الثقافة العربية حتى اليوم، فقد تحول الكتاب إلى أيقونة عبر العقود التالية ومنع في كل الأقطار العربية، بما فيها "سورية"، "فقد كان مشروع حياته تحطيم تابوهات "الثالوث المحرم"، وقد منحته نقديته كل ما يحتاج إليه للوقوف أمام ثقافة الإذعان، والسمع والطاعة، ليكون من المتمردين والرافضين، هؤلاء الذين يؤثثون ثقافة الحياة الحقيقية؛ ثقافة العصيان" كما يقول الكاتب السوري "خضر الآغا" الذي جمع بعضاً مما كتب عن "بو علي" في كتاب حمل عنوان "ثقافة العصيان"، وقدم فيه مختلف الشهادات التي تناولت الراحل.
كتابه الثاني بالتعاون مع الروائي "نبيل سليمان" لم يكن أقل ضجة وتأثيراً، "الأدب والآيديولوجيا في سورية" في العام التالي شكل هو الآخر فرقاً مضافاً في مشروعه الفكري والمعرفي، وهو الكتاب الذي قدم محاكمة من نوع مختلف لكثير من الأعمال الأدبية السورية بمنهج الواقعية الاشتراكية السائد وقتها أدبياً، يقول شريكه في الكتاب الروائي "نبيل سليمان" عن الكتاب: «لقد كتب عن الكتاب بما يعادل عدد صفحاته تقريباً، وأغلب ما كتب كان معارضاً لما جاء فيه، والقليل منه دافع عنه، مما لا شك أن في الكتاب نواقص ومن عيوبه أن لهجته حادة، ولكن هذه الصدامية ما كانت لتدفعنا لطرح أفكار غير مؤمنين بها، على أن الفترة التي ألفنا فيها الكتاب حيث الركود الثقافي والسياسي، تفسر إلى حد بعيد تلك الصدامية والحدة».
في الثمانينيات تابع مشروعه الفكري والثقافي عبر الإضاءة على جانب آخر من حياة المجتمع السوري، "المرأة"، فصدر له "أزمة الزواج في سورية" (عام 1979) الذي صدر في طبعة ثانية مطورة بعنوان: "أزمة المرأة في المجتمع الذكوري العربي" (عام 1991)، ولم يتوقف عن الترجمة في هذه المرحلة وغيرها، فصدرت له ترجمات كثيرة منها "المادية الجدلية والتحليل النفسي" لـ"فيلهلم رايش" (عام 1980)، وكتاب "نمط الإنتاج الآسيوي في فكر ماركس وأنجلس" لـ"كارل ماركس، هلموت رايش" عام 1988.
تابع سيرته النقدية مع غياب كامل عن الحياة الثقافية عقد التسعينيات، فصدر له عدد من الكتب المميزة منها: "بيان الحد بين الهزل والجد: دراسة في أدب النكتة" (عام 1996)، أما سيرته الذاتية "عين الزهور" فقد لقيت ما لقيه "الثالوث المحرم" فتعرض الكاتب للتهديد بالقتل من قبل موتورين وتدخلت السلطات لمنع نشر الكتاب بعد أن كانت قد وافقت على طباعته.
رحل "بو علي" مع مطلع القرن الجديد عام 2000، وهو ينقح الترجمة العربية للأعمال الكاملة لـ"كارل ماركس"، بعد أن وصل مجموع ما ترجمه وألفه إلى أكثر من ثلاثين كتاباً، وصدر له بعد رحيله كتابه الجميل "قروشات عاشق خائب"، كما صدرت أعماله الكاملة عن دار "المدى" بـ"دمشق".