تشكل علاقات مفردات قصائده منحوتة تولد طاقات متجددة بعفوية تتلاقى مع الفطرة العميقة الخصبة.. تماهى بالنقد واعتمد صيغاً واضحة غنية بالدلالات التي تفضي إلى ملامح دراساته..
أمام حضرة الشعر والنقد حصدت المتعة التي ولدت أسئلة إضافية للشاعر والناقد "د.وفيق سليطين" وكان اللقاء التالي:
عادة لا أفكر كيف تخرج لكنني أظن أنها حصيلة تراكمية لمواقف وانفعالات وشحنات متتابعة، وقد يكون هناك أحياناً محرض له طابع المباشرة بقدح زناد هذه الأشياء معاً، وقد يكون نتيجة استبطان وتأمل وقراءات مختلفة وتجارب تذوب في طيات النفس وتشع من هناك
** «عادة لا أفكر كيف تخرج لكنني أظن أنها حصيلة تراكمية لمواقف وانفعالات وشحنات متتابعة، وقد يكون هناك أحياناً محرض له طابع المباشرة بقدح زناد هذه الأشياء معاً، وقد يكون نتيجة استبطان وتأمل وقراءات مختلفة وتجارب تذوب في طيات النفس وتشع من هناك».
** «ربما ظلم الاثنين إذ ليس هناك من أداء لا يكون على حساب غيره لكن من الجهة الأخرى ربما أسهم الجمع بين الأمرين في صقل الأدوات أكثر وتنقيح الكتابة بالوعي النقدي الذي يعيد النظر في النص الأدبي مرة بعد مرة قبل خروجه إلى العلن .. ولا شك أيضاً في أن تجربة الكتابة الشعرية تأخذ وقتاً من حصة المتابعة النقدية ومن حجم الإسهام في الشأن النقدي والبحثي لكنني أحب أن أضيف في هذا المقام أن هناك أمراً آخر من شأنه أن يقيد الفسحة الزمنية الخاصة بالتجربتين معاً الشعر والنقد، وهو الانشغال بأعباء التدريس الجامعي وشؤونه الكثيرة ويومياته الضاغطة وأحسب أن التوفيق بين هذه المجالات هو من الصعوبة بمكان إذ يستبد واحدها بالآخر، ويحد من الانخراط المؤمل فيه وإن كان لا يخلو أحياناً من فائدة ما تتحصل من انعكاس هذه المجالات بعضها على بعض».
** «في رأيي أن تجربة القصيدة لا تصل إلى النضج التام، قد تحقق نجاحاً ما وانجازاً جيداً أحياناً دون أن يعني ذلك أنها بلغت مرحلة الاكتمال، القصيدة دائماً محكومة بألا تبلغ سن النضج .. السبب في ذلك يعود إلى مبدأ أساسي في الفكر والفن وهو أن كل تحقق ينطوي على نقص ما وربما كان هذا النقص غير المرئي هو نابض الحركة وحافز التجربة على المجاوزة وعلى التطلع دائماً نحو ما لم يتحقق بعد .. الشاعر كما الفنان مسكون بهذه الفجوة التي هي أساس الخلق .. وباعث المعاناة الإبداعية وعلى هذا الأساس أقول إن ما أكتبه لا يصل الى النضج وقد يكون عدم الوصول أمراً ايجابياً في كل الأحوال».
** «قبل الإجابة عن هذا السؤال يجب التنبيه على إنشاء الفارق بين أمرين بخصوص الملمح الصوفي هو الفارق بين الصوفية المعتقدية أو العقائدية التي تدور على أفكار ومفاهيم ومقولات لها طابع الاستقرار والثبات وبين التوجه الصوفي الذي هو ملامسة خاصة لنبض العالم والأشياء دون الوقوع في إطار التعليمات الجامدة الصوفية بهذا المعنى استكناه للذات والعالم وتجاوز لسطوح الأشياء المبذولة والبحث غن معنى يتجاوزها. إن الشيء بهذا الفهم لا يساوي ذاته المعطاة ولا يتطابق معها. والصوفية مهمة بالنسبة إلى الفن بهذا المعنى الأخير، إنها نقض لمركزية الذات وانفتاح شغوف على مساكنة الذوات والأشياء وصور الوجود والمعرفة».
** «الحداثة وان كانت قد بدأت منذ زمن بعيد فهي مشروع منفتح على الممكن وعلى الإضافة والاستكمال والحداثة ليست شيئاً واحداً إنها حداثات بمعنى أنها تقوم على تجاوز أبنيتها واستئناف مساراتها كل آن أو في كل لحظة وبهذا المعنى فإن الحداثة ليست فكرة تنجز وتنتهي وذلك ما يجعل منها أفقاً وتطلعاً وانتظاراً ومساءلة لما تم انجازه ومعنى ذلك أنها لا تقوم على فكرة الحدود والسدود والمآلات الأخيرة . إنها سؤال منفتح ينعكس على ذاته بقصد مبارحتها ومجاوزة حدودها الناجزة نحو ما لم يتحقق بعد أي أنها مشروع مستمر ومتجدد ومنتج من داخل تحققاته لأسئلة الما بعد..».
** «ليس هناك من وجود حتمي بهذا الشأن وليس هناك من وصفة جاهزة لإتباعها، هناك تجارب حاولت اقتحام الحدود الفاصلة بين الأنواع الأدبية توجهاً نحو ما يسمى بالنص المفتوح وهناك قبل عدة عقود من بشّر بسياسات جديدة في الكتابة العابرة للنوعية لكن ذلك لا يعني انتهاء صلاحية النوع حتى وان كانت هذه الأنواع تأخذ من خصائص بعضها فينتقل السرد بكيفية ما إلى الشعر كما يتشعرن السرد بما يسكنه من خصائص الشعر . المهم أن كل تجربة أصيلة تجترح أفقها وطرائق تشكيلها ..؟وعندما يكون هناك ما يسوغ هدم الحدود أو تجاوزها بقصد تحقيق إضافة فنية وقيمية فإن الأمر لا ينتظر تعليمات من خارج ولا يركن إلى القياسات الجاهزة والتعليمات الصلبة الفن حرية ومنسوج بالحرية ولذلك فهو يندّ عن مفهومات الحتم والوجوب التي تقسره على مبارحة طبيعته إذا ما أخذ بها على أن فكرة النقاء النوعي فكرة متوهمة إذ ليس هناك من نوع خالص النقاء لا تؤثثه خصائص نوعية مغايرة، لكن ضمن هذا التكوين المركب يتميز الطابع المهيمن بعناصر نوعية مميزة تكسب الكتابة هويتها دون أن تكون أسيرة النقاء أو الوحدانية المزعومة».
** «فكرة الصعود أو الانحدار الحضاري قانون عام مجرد لكن ضمن هذا الأفق المفهومي يمكن أن تتميز جوانب من البنية الحضارية فلا تكون محكومة لزوماً بمواكبة الصعود أو الانحدار لأنها تشتغل ضمن مداراتها الخاصة وحدود تشكلها الذاتي وبهذا المعنى ممكن أن نميز إنتاجاً أدبياً راقياً في إطار تأخذ بنيته الاجتماعية بالانحدار والأمثلة على ذلك كثيرة من أدب أمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا وأماكن مختلفة من العالم الثالث.. هذا موجود ومفهوم وربما يستقل بمساره أحياناً كما تؤكد التجارب.. لكنه بالمعنى الكلي لا ينفي القانون العام».
** «نعم هو ليس بكافٍ لأن خاصية الفن تتأتى من هويته أي من طرائق صوغه وتشكيله وليس من مقولاته المباشرة والشاعر لا يحوز صفته من الأفكار المجردة أي ليس هو شاعراً من خلال ما يفكر به ويترجمه فعلياً قلت إن الشاعر قبل كل شيء صانع لغة وخالق أشكال أما مقولات الخروج على التابو فيمكن أن نقع عليها في أماكن كتابية مختلفة "السياسة والاجتماع والفكر العام..إلخ.. والشعر لا يأخذ خاصيته النوعية المميزة له منها إلا بمقدار ما تكون نسيجاً في بنية مركبة وبمقدار ما يمكن أن يترشح من صيغة للكتابة الشعرية، شرف الفن من الوفاء لكونه فناً بالدرجة الأولى وليس مما يقحم به من مقولات تعول على ما هو خارج عن طبيعته وملصق بها والأعمال التي تستسهل إدراج شؤون التابو إدراجاً فاقعاً بقصد التهويل والضجيج والإثارة قد تؤتي أُكلها سريعاً من حيث هي فقاعات لا تلبث أن تنطفئ».
** «العالمية ليست نقيضاً للمحلية بل بمقدار ما تكون هذه المحلية متحققة في معالجة فنية ثرية وعميقة تحوز عالميتها، ويمكن القول إن العالمية هي هذا التحقق الخصوصي العميق الأثر دون أن يكون مساوقاً بالضرورة لصيغ من الكتابة المسيطرة والمعمول بها على حسب مواصفات المركز سواء كان هذا المركز أوروبياً أو أمريكياً أو غير ذلك وأمثلة الكتابة التي حازت صفة العالمية من كونها منغرسة في محليتها أو في خصوصياتها التاريخية والاجتماعية تقدم برهاناً ساطعاً على ذلك وهي أكثر من أن تحصى».
خلال وقفتنا مع قارئي أدب ونقد "سليطين" قدموا لنا شهادات عدة اندرجت تحت محور نقدي، عن ثقافة الكتابة النقدية تقول الدكتورة "لطفية برهم" /النقد العربي الحديث: «تتأتى أهمية الكتابة النقدية عند " وفيق سليطين " بدءاً من كتبه النقدية الأولى : ( الشعر الصوفي بين مفهومي الانفصال والتوحد )، مروراً بـ ( الزمن الأبدي، الشعر الصوفي : الزمان، والفضاء، والرؤيا )، وانتهاء بـ ( غواية الاستعادة : النص القديم في أفق القراءة المعاصرة )، من أنها تشتغل على جانب تطبيقي ـ يبتعد عنه الكثيرون لوعورته ـ، يستحضر نصوصاً تراثية؛ ليحلّلها تحليلاً نقدياً أفاد من المناهج النقدية المعاصرة، التي تنطلق من النص، لفكّ شفراته، وإعادة تنظيم عناصره، للوصول إلى تركيب دلالته، ووضعه في سياقه الثقافي، وهو تحليل مبنيّ على فكر نقديّ، يرتكز على أسس فلسفية ومعرفية قادرة على التمثّل والاستيعاب، مؤسّساً خطاباً نقدياً يشي بثقافة نظرية شاملة، تشفّ عن أن الناقد بصير بفنون الأدب، وتطوره، وبالأجناس الأدبية، وخصائص كلّ جنس وتاريخه؛ أي إنه يمتلك كفاءتين : كفاءة لغوية، وكفاءة بلاغية.
والمتأمّل في هذا الخطاب النقدي يتوقّف عند ملاحظتين مهمتين نفتقدهما في أغلب الخطاب النقدي العربي التطبيقي، تتحدّد الأولى منهما بالضبط المنهجي، الذي يقوم على الوعي النقدي، الذي يتأصّل، ويتبلور، بدوره، نتيجة الوعي بالذات، وبالعالم ، وتتحدّد الثانية بمقدرة الناقد على توظيف المصطلحات النقدية ذات الحمولات الفلسفية والمعرفية في الخطاب النقدي التطبيقي توظيفاً بنائياً، يفتح هذه المصطلحات على سياقها الذي وردت فيه، وهما ملاحظتان تثمّنان هذا الخطاب النقدي، وتشيران إلى ثقافة أصيلة، ارتقت بالخطاب إلى مصاف الإبداع، وحدّدت مسار الكتابة النقدية، فاتحة السياق على أسئلة نقدية مهمة، لا نجد لها مثيلاً إلا في كتابات قلة من النقاد العرب المعاصرين، منهم على سبيل الذكر لا الحصر: "جابر عصفور"، و"محمد برادة"، و"سعيد يقطين"».
تقول الدكتورة "فوزية زوباري" /أدب عباسي: «الدكتور "وفيق سليطين" حفر اسمه الشعري والنقدي والصوفي، على حد سواء، باقتدار وتميّز لافتين للانتباه، من خلال منتج يستند إلى أسس رئيسة ثلاثة: الفكر الفلسفي، اللغة الجزلة بآلياتها الضاربة بجذورها في أعماق التراث اللغوي، والموهبة الأصيلة الدائمة البحث عن الجديد والمبدع. أسس؛ أدّى تزاوجها في كتاباته المتنوعة والمتعددة ما بين شعر ونقد وتصوف ومقالة إلى غموض كان يُتهم به، لكنني كنت أراه، بعين النقد لا بعين الرضا، غموض الماس الذي كان يحلو لبودلير أن يصف به شعر مالا رميه. هذا الغموض الذي تحوّل مع الزمن إلى دمغة، أو علامة مسجلة، تعلِّم إنتاجه الأدبي عموماً وتسمه. لاسيما إن اعتقدنا بقول بوفون Buffon الشهير "Lestyle est de lhome me
me " "الأسلوب هو الرجل نفسه".. وقد يتهمه البعض بطغيان الفكري على الشعري أو الأدبي عموماً. وربما كان هذا الإدعاء صحيحاً إن بقينا خاضعين في نقدنا للمشكلة المتجذرة في النقد العربي عموماً، حيث نصنع حدوداً فارقة بين تلك المصطلحات مع كل منها على حدة، منفصلاً عن الآخر. أما إذا كان الفكري، الذي ينبغي أن يكون الأصل هو البنيان المؤسس للأدبي بجميع أجناسه: شعراً ونقداً، وتصوفاً.. إلخ فإنه لا يشكل -حينئذ- قيمة مضافة من الخارج، بل جزءاً أصيلاً من بنيته الأصلية المؤسسة له بغية الخروج من المستقر الراكد إلى الاندفاع المتجدد، والانعتاق من اللغة المعتادة ذات الألفاظ الشائعة، والعلاقات المتداولة إلى أخرى تتميز بألفاظ بعيدة التناول، ونظام من العلاقات أكثر جِدة وابتكار ليأتي الأديب بالمبدع غير المكرور والذي ينطبق عليه قول "أبي تمام": يقول من تقرع أسماعه/ كم ترك الأول للآخر».