«الفن هو الأقوى والأعظم في التعبير عن مكنونات النفس البشرية، لأنه يناغي القلب والوجدان، فقد جسَّد الإنسان مشاعره في الأفراح والأتراح بالعزف والغناء، واحتل اللون الشعبي الصدارة عبر دهور خلت حتى يومنا هذا، وبما أن لكل مدينة وقرية في بلادنا لونها الشعبي الذي تتميز وتنفرد به، بخصوصية اللهجة التي تتناغم بها في أداء الغناء والموسيقى، لكن اللون الفراتي يحتل الصدارة في هذا المضمار بدءاً من مدينة "الرقة"، عبوراً إلى العراق».
بهذا المدخل التوصيفي تعرفنا الأديبة "فوزية المرعي" بخصوصية الغناء الشعبي الفراتي، وهي تتحدث لموقع eRaqqa بتاريخ (29/6/2009) أثناء انعقاد الندوة الفكرية التراثية، التي حملت عنوان: "التراث هوية ومعنى"، والتي تخللها تكريم الفنان الشعبي المبدع "حسين الحسن".
كان الفنان "حسين الحسن" سبباً رئيساً، وحافزاً كبيراً، مكنني من كتابة أكثر من ألف قصيدة شعرية، استطاع أن يغني أكثرها، ويجيد في رسم الصورة الشعرية، وإبراز معالمها بصوته العذب، وهو ظاهرة لن تجود بها "الرقة" إلا بعد حين، ولولاه لما كتبت إلا بعض القصائد، وهكذا رافقته بكلماتي، التي أصبحت على كل لسان من أهالي وادي "الفرات"
وأضافت "المرعي": «لقد تألق الكثير من الفنانين عبر عصور مضت حتى يومنا هذا، وأصبحوا رواداً في الحركة الفنية (الفن الشعبي)، والفنان المبدع "حسين الحسن"، الذي ولد في "الرقة السمراء" عام /1941/ من أشهر الفنانين في الفن الشعبي في محافظة "الرقة"، والذي تألق على مدى أربعين عاماً، فقد اشتهر بمهارة العزف على آلة الربابة، ونظم الشعر الشعبي، والغناء الشعبي، وأطرب بصوته الشجي كل من سمعه.
ويعتبر صوته قيثارة تضافرت فيها باقتدار نغمتي القرار والجواب، وترفده عُرب صوتية ذات نغمات شجية هي أقرب إلى النواح، والنواح هو الأصعب من حيث الأداء، والأكثر تأثيراً من حيث وقعه على النفس، فإن استطاع السامع لهذا اللون كتم مشاعره، والسيطرة عليها، فللدموع جرأة لا يمكن سد مآقيها، فقد غنى "حسين الحسن"، وعزف على ربابته بأشعار من نظمه، كما غنى أبياتاً من شعر الشاعر الشعبي المرحوم "محمد الذخيرة"، ولابنه من بعده الشاعر والباحث "محمود الذخيرة"، والشاعر الشعبي "موسى الحمد"».
وتحدثت الأديبة "فوزية المرعي" عن خصوصية الشاعر "حسين الحسن"، وتجربته الشعرية التي جعلته بمصاف شعراء الحب العذري، وقالت: «الحب تجربة وجدانية عميقة، تنتزع الإنسان من وحدته القاسية الباردة، لكي تقدم له حرارة الحياة المشتركة الدافئة، وهو تجربة إنسانية معقدة، وهو أخطر وأهم حدث يمر في حياة الإنسان، لأنه يمس صميم شخصيته وجوهره ووجوده، فيجعله يشعر وكأنه ولد من جديد، وربما نخلص إلى تعريف أن أصدق أنواع الحب، هو الحب العذري المتوج بالزواج، كما حصل مع الفنان "حسين الحسن"، الذي تألق في تكريس جلّ أشعاره لمحبوبته "مريم"، التي كادت تطيح بعقله من خلال أغانيه، التي طغى عليها طابع الحزن».
وتقول الأديبة "المرعي": «طرحت على شاعرنا سؤالاً عن الفترة الزمنية التي كوت قلبه على جمر الحب المتقد، فأجابني شعراً بأبيات من لون "الموليا"، قائلاً:
تسع عامات لهواكـم أباريه/ علامك تخفي عيونك أباريه
لجبيبي سلمت روحي يباري/ عساها تكون ميزان الحساب
ويتابع بفيض من القصائد المعبرة عن خيبة أمله حين يتقدم لخطبة حبيبته، ويكون جواب أهلها بالرفض، يقول:
القلب الأكشر مالوم/ ما ادري شـبيه
والحال صفـا بردا/ فكد الولف ماذيه
وحين باغته خبر رحيل ضعن الحبيبة عن المكان الذي ألف وجودها فيه، تنبثق الكلمات من جوفه كالشهب قائلاً:
شيّل ضعن محبوبي/ وشمطولج يادروبه
حتى الغربـي تغيّر/ ما لاقلـي هبوبـه
وحين يقترب من المضارب، ولا يجد سوى الرماد يصيح بألم ومرارة، وتتطاير فراشات اللوعة عن موقد حبه نائحاً:
هذي ديار الولف/ محراث ضل بالدار
مناصب مكسّرة/ ومحار لعب زغار
ويضيف بأبيات أخرى بصيغة تختلف عما قبله:
لكيت بدار الولف/ شفه وذريره وعود
وضميتهن عالقلب/ ضمة الصدر لنهود».
وتختتم "المرعي" حديثها عن "حسين الحسن"، بقصة طريفة، قائلة: «راجع الفنان "حسين الحسن" مع زوجته ذات مرة الدكتور "عبد السلام العجيلي" في عيادته، فسأله "العجيلي": أهذه هي النجمة الشعشعت؟ ويقصد بذلك الأغنية التي يرددها الرقيون، ويؤديها الفنان "حسين الحسن"، وهي من لون "النايل"، وتعتبر من أشهر أغانيه، والتي يقول فيها:
النجمة الشـعشعت/ تلهب لهيب حشاي
ويزين كصد الولف/ حافي الجدم مشاي».
وتحدث الباحث "محمد الموسى الحومد" في شهادته التي قرأها أمام الحضور، قائلاً: «كان لـ"حسين الحسن" حضور مميز من خلال رحلة فنية استمرت زهاء ثلاثة عقود، حيث ساهم في حفظ بعض الألوان الفراتية من الاندثار، فجمعها بعد بعثرة، ونقلها بكل أمانة، وخصوصاً لوني "النايل" و"اللقاحي"، مما ساهم مباشرة ببناء شهرة فريدة له، ساعده في ذلك امتلاكه لصوت شجي يتناسب وميول ابن البادية، فضلاً عن براعة في العزف على الربابة، فأجاد بذلك جميع الأطوار اللحنية للأغنية الفلكلورية الرقية، لا سيما "نايل أبو كذالي"، ومن الشعراء الذين غنى أشعارهم "محمد الذخيرة"، و"محمود الذخيرة"، و"زيد الهويدي"، و"حسين العصمان"، و"موسى الحمد"».
ويضيف "الحومد"، قائلاً: «مع أن الأغنية الفلكلورية الرقية، كجزء من الأغنية الفراتية، نُسبت لشعوب أخرى، بقيت على سجيتها لأن منابعها لم تنضب، وقد أثبتت حضورها مع أنها نقلت بطريقة مبسطة، وربما مشوهة في جانب آخر، اسماً ولحناً وكلمة، ورغم ذلك كان لكل نفحة منها حضور، مما زرع الثقة في قلوب متتبعيها لنقل أكبر قدر ممكن من هذه المواد بنسبها الحقيقي، وصورتها الرائعة، وثوبها الزاهي الجميل».
كما تحدث لموقعنا الباحث الدكتور "محمود النجرس": قائلاً: «أستطيع القول إن الفنان المبدع "حسين الحسن"، من القلائل في منطقة "الفرات" خلال القرن العشرين، ممن تركوا بصمات لا يمكن أن يمحوها الزمان، ولا يمكن أن تزول من عالم الغناء الشعبي، والعزف على الربابة.. "حسين الحسن" عميد الغناء الشعبي في منطقة "الفرات" ككل، وهو ظاهرة ومدرسة في فن الغناء الشعبي، والعزف على الربابة لا يمكن أن تتكرر، جسَّد كل ألوان الغناء الشعبي في غنائه، وهو عازف بارع على آلة الربابة، التي تعتبر بحق رفيقة درب ابن الصحراء في حلِّه وترحاله، والآلة الأكثر شعبية في الأرياف والبوادي العربية.
عندما يبدأ "حسين الحسن" بمباشرة العزف على آلة الربابة، يتمازج صوت حنجرته، مع وتر الربابة، وينشأ بينهما إيقاع من نوع خاص، وهو صاحب الأطوار الخاصة في كل أنواع الغناء، لا يمكن تقليدها، لأن مشاعره وأحاسيسه مصبوبة في حنجرته، وعبر عزفه الجميل على آلة الربابة.
ومما ساعد في وصول "الحسن" إلى أغنية شعبية راقية، وجود شاعر كبير مثل "محمود الذخيرة" إلى جانبه، وهو العارف بأحواله، وكل جزئياته، لذلك كانت أشعاره تصور أحواله أبلغ تصوير، فقد توفر المغني والعازف بشخص "حسين الحسن"، والكلمة الجميلة، والصورة الشعرية لدى "محمود الذخيرة"، وهكذا انسكبت كل تلك العناصر، مع اللهجة العامية الشعبية، والمضمون الشعبي، لتدخل إلى أعماق الناس وتلامس وجدانهم، وتعبر عن عواطفهم ومشاعرهم وأحاسيسهم».
وقدم الشاعر "محمود الذخيرة" شهادة بالمحتفى به، قائلاً: «كان الفنان "حسين الحسن" سبباً رئيساً، وحافزاً كبيراً، مكنني من كتابة أكثر من ألف قصيدة شعرية، استطاع أن يغني أكثرها، ويجيد في رسم الصورة الشعرية، وإبراز معالمها بصوته العذب، وهو ظاهرة لن تجود بها "الرقة" إلا بعد حين، ولولاه لما كتبت إلا بعض القصائد، وهكذا رافقته بكلماتي، التي أصبحت على كل لسان من أهالي وادي "الفرات"».
وفي نهاية الحفل قدمت الأديبة فوزية المرعي للفنان "حسين الحسن" درع منتداها الأدبي، تكريماً لمسيرته الفنية التي استمرت أربعة عقود من الزمن. ثم أعقبها تقديم عدد من الوصلات الفنية بمصاحبة آلة الربابة لأحد المطربين الشباب، رافقه في الغناء الفنان "الحسن" رغم حالته الصحية الصعبة، ألهبت حماس وتصفيق الحضور.