أكثر من قرن ونصف مرَّ من عمر مدينة "الرقة"، وما تزال إلى الآن حياتها الموسيقية تعاني الكثير من التأخر، فعدد العازفين فيها قليل جداً، وغالبيتهم لم يتلقوا أي تعليمٍ أكاديميٍّ، كما أنها إلى يومنا هذا تفتقر لفرقة موسيقية متكاملة، وباختصار شديد فهي تعتبر من المدن السورية المتأخرة جداً في مجال الموسيقا.
ترى ما هي الأسباب؟ وما هي الحلول؟ ومن المسؤول عن هذا التأخر الموسيقي؟
المطلوب باختصار شديد هو كل شيء، ابتداءً من توفير المقرات الملائمة لدراسة الموسيقا بالإضافة للآلات الموسيقية الجيدة، وانتهاءً بدفع الأجور العادلة لكل العاملين في هذا الميدان، «ومن يطلب الحسناء لم يغله المهر
تلك أسئلة طرحناها على الموسيقي وعازف العود "محمد العيسى" الذي يعتبر أول أكاديمي موسيقي في مدينة "الرقة"، حيث التقاه موقع eRaqqa بتاريخ (5/12/2010) فكان معه الحوار التالي:
*ما تقييمك لواقع الموسيقا في مدينة "الرقة" ؟
**«في الحقيقة إن هذا الحديث ذو شجون، والخوض في غماره يستدعي منا وقفتين، الأولى للحديث عن أسباب تردي الواقع الموسيقي في "الرقة"، والثانية لطرح البدائل العملية التي من شأنها إحداث تغيير جذري لهذا الواقع، سيما وأنه لدي ثقة كبيرة بقدرة هذه المدينة الفتية على التطور السريع، وكأني بها مدينة تخوض سباقاً مع الزمن.
فبالنسبة للأسباب أو العوامل التي خلقت هذا التردي الموسيقي في المحافظة، فأهمها هو العامل الزمني، المتمثل بحداثة مدينة "الرقة"، التي لا يتجاوز عمرها عن /150/ عاماً على أبعد تقدير ـ طبعاً أقصد بكلامي "الرقة" الحديثة وليس التاريخية ـ وكما هو معلوم فإن النهضة الموسيقية في أي مدينة في العالم تحتاج لقرون عديدة من الزمن تكون قد مرت على أهلها، يستقر خلالها المجتمع ويكوِّن مرافقه واحتياجاته الأساسية والضرورية، ليلتفت بعد ذلك إلى الجوانب الأخرى التي قد يعتبرها ضرباً من الترف الروحي أو الفكري، ومن هذه الجوانب الموسيقا.
ولأن "الرقة" مدينة فتية وحديثة العهد، فإن عجلة التطور فيها كانت تدور ببطء شديد ولعقود طويلة، الأمر الذي لم يخلق مناخاً مناسباً لتطور الموسيقا أو غيرها من الفنون، لكننا نلاحظ أنها وفي السنوات العشر الماضية راحت تتطور بشكل ملحوظ وسريع، وذلك في العديد من المجالات، ومن ضمنها الموسيقا، إلا أن تطور الموسيقا لم يتبلور بعد، ولم يتم تناوله بالجدية المطلوبة، رغم انتشار الوعي الموسيقي والرغبة الحقيقية في التعلم من قبل الكثيرين من أهالي المدينة.
وأعتقد أن البداية الصحيحة لن تكون إلا بإعداد كادر من الموسيقيين الأكاديميين، أو من ذوي الثقافة الأكاديمية، والذين بهم فقط يمكن أن ننشئ جيلاً من الموسيقيين الحقيقيين، وأريد القول هنا بأن نشر الموسيقا يحتاج لمعلم قادر وكفء، وإلا فإننا سنظل نراوح مكاننا، أو نخلق جيلاً من أشباه الموسيقيين».
*برأيك هل سيكون لخريجي قسم الموسيقا التابع لمعهد إعداد المدرسين، دور في نشر الثقافة الموسيقية في "الرقة"؟
**«للأسف الشديد لا أعتقد ذلك، فهم أولاً لم يتلقوا تعليماً أكاديمياً بمعنى الكلمة، كما أن أغلبهم ـ إن لم أقل جميعهم ـ لم يخضعوا عند انتسابهم إلى المعهد لأي شروط أو معايير يعوَّل عليها أثناء امتحان القبول، اللهم سوى اصطحاب وثيقة تثبت حصولهم على الشهادة الثانوية، وهذا ـ برأيي ـ أمر خطير ويجب تداركه في السنوات القادمة، فأنا لا يمكنني أن أتصور فكرة قبول طالب في قسم الموسيقا ليس له أي علاقة بها لا من قريب ولا من بعيد، ثم ما هي الحكمة والهدف من ذلك؟ فالنتيجة واضحة وضوح الشمس، فسيدخل الطالب إلى المعهد ولا علاقة له بالموسيقا وسيتخرج منه دون أن تتطور هذه العلاقة.
وبالتالي ـ ومع كل حبي وتقديري لهم ـ لا يمكن الاعتماد بتاتاً على كافة هؤلاء الخريجين في مهمة نشر الموسيقا الأكاديمية بين أبناء الجيل الجديد، لأن فاقد الشيء لا يعطيه».
*ما هو المطلوب ـ برأيك ـ من الجهات الرسمية لدعم الحياة الموسيقية في هذه المدينة؟
**«المطلوب باختصار شديد هو كل شيء، ابتداءً من توفير المقرات الملائمة لدراسة الموسيقا بالإضافة للآلات الموسيقية الجيدة، وانتهاءً بدفع الأجور العادلة لكل العاملين في هذا الميدان، «ومن يطلب الحسناء لم يغله المهر»، ففي مدينة "الرقة" تنفق الدولة سنوياً الكثير من الملايين على المهرجانات المختلفة، كمهرجان القصة والرواية والمسرح والشعر والفن التشكيلي، دون أن يكون للموسيقا أي حصة من هذه الملايين.
وأنا لست ضد إقامة هذه المهرجانات، بل على العكس أشجعها بقوة، لكن في الوقت نفسه أتمنى أن يكون لدينا فكر تأسيسي لا استهلاكي أو استعراضي فقط، بمعنى أن نبدأ مثلاً بتأسيس وبناء مسرحيين حقيقيين وموسيقيين حقيقيين.. إلخ.
فما فائدة دولة تستضيف بطولة كأس العالم ـ على سبيل المثال ـ وليس لديها فريق بحجم هذه البطولة، وبالعودة إلى الموضوع، تخيلوا معي أن مدينة في نهاية عام /2010/م، لا يوجد فيها أي فرقة موسيقية تمثلها، ولا يوجد فيها أي عازف يجيد قراءة النوتة الموسيقية وو..!!، هذه ـ وبدون مبالغة ـ كارثة حضارية، يجب على المسؤولين التنبه إليها ومعالجتها».
*ما هي سبل معالجة هذه الكارثة ـ كما ذكرت أنت ـ و"الرقة" لا يوجد فيها كادر مؤهل لتولي مسؤولية النهوض بالحياة الموسيقية؟
** سؤال هام، والإجابة عليه سهلة، فهناك أسلوب يتبعه العالم بأسره وهو الاستقدام أو الاستعانة بالخبرات أو سمِّه ما شئت، فالدول الفقيرة بالأطباء تتعاقد مع أطباء من دول أخرى، والفقيرة بمدربي كرة القدم تستقدم مدربين من مختلف دول العالم، فسلطنة عمان على سبيل المثال، من أين لها هذه السمعة الكبيرة في مجال الموسيقا؟ بدون أدنى شك بسبب استعانتها بأهل الخبرة من الموسيقيين.
ونحن في سورية لدينا مئات الخريجين الأكاديميين الممتازين ومن كافة الاختصاصات، فما المانع من الاستعانة بخبراتهم لتأسيس جيل من الأكاديميين في هذه المدينة، وأعتقد أن الأمر لن يستغرق سوى بضع سنوات، سنجد بعدها أن "الرقة" تمتلك عشراتٍ من الموسيقيين المميزين الذين سيكوِّنون النواة الحقيقية للارتقاء بالحياة الموسيقية في "الرقة"».
*كلمة أخيرة
**«أنا متفائل جداً بالمستقبل، وأعتقد أن مفاتيحه بين أيدينا. فمدينة "الرقة" غنية بإمكاناتها البشرية، وهي ـ برأيي ـ من أكثر المدن السورية قدرة على التطور والقفز فوق الزمن، وما زال لديها الكثير لتقوله، وكل ما أتمناه أن يأتي ذلك اليوم الذي تحتفل فيه هذه المدينة بولادة أول فرقة موسيقية أكاديمية في تاريخها بعد انتظار طال أمده».
من الجدير ذكره أن الفنان "محمد العيسى" من مواليد مدينة "الرقة"، عام /1985/م، وهو يعتبر أول أكاديمي موسيقي في هذه المدينة، تخرج في كلية الموسيقا في جامعة "البعث" عام /2010/م.