«قلعة المعنى في مملكة الصور، فرسان اللغة على أبوابها المنيعة، كلٌّ منهم يحلم أن يلقي عليه أهلها خلعة الفاتحين....، كانت أحصنة خيالاتهم تنتحر على أسوارها، وحراب لهجاتهم تتكسر دون أبراجها..!، قال كبيرهم الذي علمهم الشعر: كأن الشعر طروادةُ المعنى، أبدعوا من أصل جذور الشعور منحوتة فرساً، سموها القصيدة، وزجوا في أجوافها وتلافيف خباياها بأعتى فرسان لغاتهم، وقدموها هدية لقلعة المعنى...، وعندما قبلت القلعة الهدية ازدادت شموخاً ومنعةً ولم تسقط..، قال كبيرهم الذي علمهم الشعر: ويْ..! كأن الإغريق وهم..، وما برحوا يحاولون...!».
هذا ما قاله الشاعر الدكتور "باسم القاسم"، قبل عامين من الآن، مقدماً به ديوانه الشعري الأول: "آخر الورثة من سلالة النخيل"، والذي اخترناه ليكون مقدمة للحوار الذي أجراه معه موقع eRaqqa بتاريخ (8/12/2008)، حيث كان الحوار التالي:
** هلا حدثتنا عن بداية دخولك إلى عوالم الشعر؟
«لا نعومة لأظفار الشعر عندي، إلا أنه فاجأني في مقتبل الشباب، ولم يكن عن كسبٍ محضٍ، أتى من كثرة قراءة للسلف والخلف، من جهابذة الشعر وأربابه، وما كان عن وهبٍ صرفٍ، صادر عن أميّةٍ سطعت من مشكاة السليقة والعفوية الفائضة، صدوراً عن سراج الفطرية وجذوة (وعلم آدم الأسماء كلها..)، وبين هذا وذاك علمت أن بين هاتين الضفتين، يجري نهر الحيرة شعراً نابعاً من ذاتي المسكينة، على مجرى البياض المتآمر على حقيقة الشعر في جغرافيا الأدب».
** هل كان للبيئة الفراتية أثر على أعمالك الشعرية؟
«لا بد أن نميز بعدين في هذا السؤال، البعد الأول يتعلق بأثر البيئة الفراتية جغرافياً، (الانطباعية)، والثاني يتناول البيئة الفراتية لغوياً (الفيلولوجيا)، أما عن البعد الأول، فلا ألمس في نفسي هذا الأثر البالغ، فقد نشأت بين جدران الإسمنت، وسرت على دروب الإسفلت، فلا نهر يفيض إلى حد أنه يبتلع عشاقه، ولا بساتين رمان أو زيزفون، ولكن عبارة عن جزر خضراء يسمونها حدائق، وأيام حر قائظ، وعواصف غبار ربما مرة أو مرتين في الموسم، وهذه كلها عموميات كما أعتقد، لا تترك انطباعاً ذا خصوصية في كتاباتي، أما في البعد الآخر، فهذا ولا شك هو الأثر الذي يعطي لكل مدعٍ للشعر سمته النحوية (الفيلولوجيا)، فاللغة بكونها كما يقول "رولان بارت": «هي مؤسسة تقوم على مجموعة من الأعراف والتقاليد والقيم والإشارات، التي يتفق عليها مجموعة متعايشة اجتماعياً»، لابد وأنها ستكون محصلة لتفكيك أي كتابة شعرية فهي خلاصة الموروث، وربما وكما أعتقد بأن البيئة الفراتية اللغوية، هي من أغزر البيئات لغوياً، استناداً إلى المخزون الحضاري الكبير، الذي ولد ورصد في هذه البقاع، هذا التأثير ينسل إلى ما أكتبه بغير تعمد، وحتى أنه لا يسعني وصفه، فهو يوشك أن يكون مندمجاً بذهنيتي اللغوية، ما بين الموروث والمكتسب لغوياً، ماضياً وحاضراً».
** هل تهتم بالبناء المعماري للقصيدة، أم القصيدة بالنسبة لك كائن يولد عفوياً؟
«أعتقد أنه لا يوجد في الشعر كتابة شعرية تسمى قصيدة، وبنفس الوقت تكون عفوية، فالكتابة عندما تكون عفوية تسمى نصاً شعرياً، هذا النص الشعري لا يرقى لمستوى قصيدة، إلا عندما يقصد الشاعر ذلك، فكلمة قصيدة صادرة عن فعل قصد، وهنا يتنافر القصد مع العفوية، وتتجلى القصدية عند الشاعر، في اعتماده على صيغة بنيوية، يستثمرها في تقديم أنساق الكتابة الشعرية، لتظهر على شكل قصيدة، فليس كل كتابة شعرية قصيدة، ولكن القصيدة حتماً هي كتابة شعرية، يتدخل فيها قصد الشاعر ووجهات نظره، وإذا سمح لي القارئ العزيز أن أسلط الضوء أكثر على هذه القضية، لأنها إحدى القضايا التي يتم إغفالها في دراسات الشعر النقدية، وهي: موضوعة التكاملية والاحتواء، وهذه موضوعة طرحتها مدرسة النقد الحديث الأميركية على يد "بروكس" بإيحاء واتكاء على "تي إس إليوت" وهي تنتهي إلى تصنيف النص الشعري كقصيدة، من خلال المدى الذي استطاعت أن تصل إليه درجة الاكتمال والاحتواء، في العلاقة بين اللغة وكل ما يدور من حولها من ممكنات وواجبات الوجود داخل النص الشعري، من حيث أنه كائن لغوي حي، يمتلك قدرات ومواهب فاعلة ومنفعلة وحين الوصول إلى درجة الاحتواء والاكتمال، يحوز النص الشعري على لقب قصيدة بامتياز، ويتجلى ذلك في توفر نقطتين القصدية والدراما، أما عن القصدية، فكما هو معروف، أن العمل الأدبي هو فعل قصدي قبل كل شيء، وهنا يحضر "إليوت" بعبارته الشهيرة حين قال: «الشاعر يلقي بشبكته فربما وقعت في ساقية، وربما في نهر، وربما في محيط وربما ألقاها فقبض على الكون بأسره»، والشبكة هنا هي النص الشعري بكل حيثياته، ويبرز هنا أهمية لتحديد الأسلوب في القصد إلقاء الشبكة (وهو ما يمثل محور التوتر الداخلي)، وكلٌ هنا يسعى لأن يكون نصه (شبكته) قد قبضت على الكون بأسره واحتوته، وأما عن الدراما فقد طرح "بروكس" مقولته الشهيرة: «إن القصيدة هي عمل درامي بامتياز». فعندما تنتفي الدراما من الكتابة الشعرية، فهي ستكون بعيدة عن تصنيف قصيدة، وتبقى في مرتبة النص الشعري العفوي، ولنكن هنا متيقظين، بأن مفهوم الدراما هنا، يأخذ بعداً آخر غير البعد المألوف لهذه الكلمة في الرواية والقصة، ليس المقصود هنا أبداً الدراما الحكائية أو السردية، بمعنى النص يجب أن يتضمن حدثاً حكائياً شعرياً، لنسمه قصيدة الدراما، هنا يقصد بها تناغم وتوافق عناصر النص، حول محور التوتر الداخلي، فعناصر النص والمتمثلة بالإيقاع والموسيقا الخارجية والداخلية، والانزياح الدلالي للمفردات، ولا ذاتية الشاعر، جميعها تتناغم وتتضافر مع محور التوتر الداخلي (القصدية)، لتشكل لنا حدثاً درامياً لغوياً، وهنا نقول لغوياً، فنجد الشاعر يصول ويجول في النص بديناميكية لا يتقنها غيره، بين القصدية وبين البراعة البنائية، بحرفية درامية عالية، وهنا يكون النص الشعري بمستوى قصيدة، وأود التنويه هنا، بأن ما سبق من أفكار نقدية، ليس قوانين لكتابة الشعر على الإطلاق، ولكنها منهجية اقترحها النقاد في محاولتهم لمعرفة (كيف تعني القصيدة..؟ وليس ماذا تعني القصيدة..؟)، وكما يقول "ريتشاردز" مؤسس منهج النقد الأدبي الحديث: «ما يهمنا القصيدة، وليس ما تقوله القصيدة».
هذه هي القصيدة بالنسبة لي، وهكذا أراها وأعتقد أنه ليس من السهل أن نطلق على أي نص شعري بأنه قصيدة، وهكذا فعل أسلافنا فما علقوا على باب الكعبة، إلا بضع قصائد لفحول الشعر، لتحقيقها لبنائية تخص القصيدة العربية في تلك الحقبة، ولكن لا نستطيع كما أعتقد أن نقول بأنها كانت (عفوية)».
** كيف ترى المشهد الشعري السوري عموماً، والرقي خاصة، في السنوات الأخيرة؟
«أعتقد أن دين الشعر في سورية، منذ عقود يأخذ سمة الوثنية، فعلى الساحة أسماء في ممالك الشعر السوري، لازال لها هيبة الصنم من أمثال "أدونيس"، "محمود درويش"، "نزار قباني"، "الماغوط"، "أنسي الحاج"، هذه الأسماء لازالت نمطية قصائدهم، ببراعتها وسحرها وحرفيتها، تتداخل في (تناص) شبه قسري، مع النصوص المنتجة في السنوات الأخيرة، وبالطبع أنا أتحدث من خلال مجموع قراءاتي الخاصة، وربما أكون شمولياً من وجهة نظري هذه، ولكنني لابد أن أستثني بعض حالات الشعر المهمة في سورية، كفرت بهذه الأصنام إلا أنها لا تقوى على التبشير بدين جديد للشعر، أو التأسيس لخط شعري جديد، على مستوى السوريين من الشعراء بسبب أزمة القراءة، أما على مستوى الشعر "الرقي"، فهو حتماً يدخل في التقييم السابق، ولكن هناك حراكاً شعرياً مهماً ومتنام في مدينة، دائماً كانت تعرف بمدينة القصة القصيرة والرواية، إلا أن هذا الحراك تعتريه أزمة قلة النشر وإصدار الكتب الشعرية، مع العلم بأن الكتاب الشعري عندي لا يتجاوز كونه وثيقة لحماية حقوق التأليف، فوسائل التواصل والتوصيل مع المتلقي، تجاوزت الكتاب كوسيلة في السنوات الأخيرة، وأحب أن أنوه إلى أسماء رقية، لها تجربتها المهمة برأيي، على مستوى الشعر الحديث، أمثال المرحوم "عبد اللطيف خطاب"، الدكتور "أحمد حافظ"، "معاذ الهويدي"، "ياسر الأحمد"».
** كيف ترى حركة النقد العربي بشكل عام، والنقد الشعري بشكل خاص؟
«أعتقد بأن الحركة النقدية في العالم العربي، تبذل قصارى جهدها مقاومة لمجموع العوامل والظروف، التي تحاول أن تجهض محاولات المواكبة والمجاورة، على الأقل مع الشمال المتقدم زمنياً، في ريادته على مستوى مجمل قضايا النقد الحديث، وربما استطاع العرب تحقيق اختراق مهم على المستوى النقدي عالمياً، من خلال الراحل "إدوار سعيد"، الذي خلق فتحاً جديداً في مفهوم الاستشراق، وشكلت مؤلفاته عتبة من عتبات الفكر النقدي العالمي في هذا المستوى، ولابد أن أشير في هذا المقام إلى كوكبة من النقاد العرب المجتهدين، والذين أكنُّ لهم خالص الاحترام والإعجاب، بجهودهم الفكرية الجبارة، التي تحاول أن ترفع من مستوى الوعي النقدي العربي، من أمثال "محمد أركون"، "عبد الوهاب المسيري"، "مصطفى الكيلاني"، "أدونيس"، "طراد الكبيسي"، "جورج طرابيشي"، هذا من ناحية النتاج الفكري النقدي.
أما على مستوى النقد الشعري، فيسري عليه التقييم السابق، ولكن لا بد من الإشارة إلى أمر هام وهام جداً كما أعتقد، وهو النقد الشعري كإجراء يتناول النصوص، بغض النظر عن فكر النقد الشعري، أقول بأننا نستطيع تحميله جزء من المسؤولية إن لم يكن معظمها، عن مجمل الأزمات التي تعاني منها وظيفة الشعر، حيث إن من تصدروا لتبني إجراءات النقد الشعري على النصوص، انقسموا إلى طائفتين، الأولى تتناول النصوص الشعرية بطريقة مدرسية، تعتمد وجهة النظر الحداثية، ضاربين بعرض الحائط تلك الفجوة الرهيبة، التي تستمر اتساعاً بين المتلقي والقراءة والمثاقفة، مما تسبب بشبه قطيعة بين الجمهور والناقد المدرسي، ما أثر على النصوص وأطروحاتها الحداثية والمعاصرة، وازدادت نسبة المتلقي المغلق، الذي لا يقرأ إلا السطحي البسيط من النصوص، ويرفض سلفاً تلك التي تعتمد أساليب النصوص الحديثة، والطائفة الأخرى أصبحت تقدم ما تسميه نقداً، ولكنه أبعد ما يكون عن النقد، ولا تجاوز كونه رأياً انطباعياً، وشرحاً للنصوص، وشتان ما بين نقد النص وشرح النص، فالناقد كما أعتقد هو الذي يميز بين أن تحضر نصاً شعرياً كشاهد على مقولة اقترحها العقل الناقد، وبين أن تحضر النقد ليكون شاهداً على نص ما، وإن سألتني عن حلول، فأعتقد أن غياب النقد التوفيقي بين النص والمتلقي يحقق لنا جزءاً من الهدف المعرفي، ولكنه بحاجة إلى نقاد أشبه بالمربين، الذي يحققون التوافق ما بين المدرسية النقدية، ومستوى وعي المتلقي، وهذا المطلب قد يكون كطالب السراب في الصحراء يحسبه ماءً، وذلك بسبب أزمة قلة القراءة، وسيطرة السمعي البصري (المجتمع المشهدي)».
** هل تأثرت بأحد؟
«أعتقد أن ذريعة كل من يسأل هذا السؤال سيجدها في مقولة "رولان بارت" منظِّر البنيوية حيث يقول: «لا يوجد نص أول»، أو على طريقة "محمود درويش" (لا ورقة بيضاء)».
** بعيداً عن الشعر، لمن يقرأ الدكتور باسم؟
«الدراسات النقدية حول القضايا الفلسفية المعاصرة، أكثر ما يشغلني في هذه الآونة، "أمبيرتو إيكو" "جاكبسون" "ميشيل فوكو"، ولا يخلو الأمر من المكتبة العربية، ما قبل الإسلام والإسلامية، وخاصة مؤلفات الإشراق "الكبريت الأحمر" لابن "عطاء الله السكندري".
** أين تجد نفسك في أنماط الشعر المختلفة؟
«في هذه الآونة شعر التفعيلة، ولكنني أعد العدة متمنياً كتابة قصيدة النثر».
** ماذا عن أشعار الأطفال التي كتبتها؟
«هذا ما نستطيع أن نسميه أدب الأطفال، يوشك أن يكون كما أعتقد امتحاناً حقيقياً للشعر قبل الشاعر، إنه الأدب البرهاني كما يصنف نقدياً، عليك أن تطرح الفكرة وتبرهن عليها في فلك غنائية فطرية وروحانية، مسلمة لمجموعة من القيم والأخلاق، التي يمكن أن يتبناها جيلٌ واعد، فأين سيذهب الشاعر أمام هذه المعطيات، بجموح قلمه ووجدانه، المتمرد على المستقر والثابت في محيطه الفكري والنفسي، أعتقد أنه لن يبقى أمامه إلا أن يستنطق ذلك الطفل، الذي غفى في أعماقه منذ زمن، أما عن تورطي في هذا العالم من عوالم الشعر، فيعود إلى عبارة عن "كنفوشيوس" أخذني صداها إلى عالم الشعر المغنى، حيث قال: «لا يهمني من يكتب شرائع الصين، مادمت أنا من يكتب أغانيها»، فكان لي مساهمات في أدب الأطفال على المستوى العربي، أكثر من خمسة عشر عاماً، ما بين أوبريت مسرحي غنائي، ونشيد، تم تنفيذها وتسجيلها، وهناك عمل مسرحي لأطفال السكري "أحلام ماهر"، اعتمدته منظمة الصحة العالمية إقليمياً، بالإضافة إلى لجان تحكيم مسابقات الأطفال قطرياً في المجال الأدبي، أكثر ما يدهشك في هذا المضمار هو أن ترى أطفالاً، يرددون ما كتبته لهم بمتعة وشغف».
** هل مازلنا بحاجة إلى الشعر..؟
«أعتقد أننا نكون بحاجة إلى الشعر، بقدر ما نكون بحاجة لأغنية صباحية، بحاجة إلى أغاني يرددها أطفالنا، بحاجة إلى بضع كلمات يكتبها أو يرددها عاشقٌ لا يتقن الشعر لحبيبته، بقدر ما نستفقد في الطامات الكبرى، شعراً يوثق أو يعزي أو يشتم، أليس كل ما ذكرته سابقاً يتناول الشعر، أم أننا سننعي الشعر، ونكتب تاريخ وفاته، فقط لأنه لم يعد يقود ثورات ولا يغير أنظمة..!، أعتقد أن للشعر بعداً جمالياً ومعرفياً، لا يمكن الاستغناء عنه في حياة الشعوب».
والجدير ذكره أن الشاعر الدكتور "باسم القاسم"، من مواليد "الرقة" عام/1973/، وهو خريج جامعة "حلب" كلية طب الأسنان، أول كتاب شعري أصدره عن دار "الفرقد" عام /2006/ بعنوان "آخر الورثة من سلالة النخيل"، نشر العديد من النصوص الشعرية والدراسات النقدية، في كثير من الصحف والمجلات العربية والمحلية.