"إبراهيم الخليل" الروائي الذي قال عنه الدكتور "عبد السلام العجيلي": «إن تصلبه صراحته ولذع لسانه على خشبته التي يحملها على كتفه منذ الآن». فعلاً هذه الجملة التي قالها الدكتور في تقديمه لرواية "حارة البدو" تختزل شخصية هذا الروائي الصادق في أدبه, فهو يكره الأضواء والعلاقات العامة ورسالته الأولى في الحياة الصدق, هو من مواليد مدينة "الرقة"، وخريج كلية الآداب قسم اللغة العربية, صدر له في مجال الرواية "الهدس"، "حارة البدو"، "سدوم"، "حارس الماعز"، "صيارفة الرنين".
"حارة البدو" في تلخيص لها, "تبئير اجتماعي" لطبقة اجتماعية زحفت من الريف لتستقر في أطراف مدينة "الرقة", والبطل هو الحارة المسماة "حارة البدو"، وتسرد الرواية أحداث رجل بدوي قادم من الكويت، وضع نصب عينيه الأخذ بثأر أخيه "عامر" من رجل يدعى "علوش الخضر": «ولأكثر من شهرين كنت أرى "عامر" يخرج من قبره، هيكلاً من العظام واللحم الأسود، ويتجه بثقة إلى نهر "البليخ"، يعتسف الطريق كالبعير، والعراء يتورد، ويزدهي، والشجيرات الرعوية القليلة تجف، وترتعش والحجر يبتعد عن طريقه، وحين يصل يرتهج الماء، فيخوض ومن ثديه الأيسر يتدفق الدم، حاراً، ندياً فيلون النهر، ثم يغوص، يغوص فلا تبقى سوى يده اليسرى تستنجد، وصرخة مكتومة تملأ العراء». (1)
فعلاً كانت الأمور تتسارع كما قال الرجل, فالقائمقام الجديد يوم كانت البلد قائمقامية كما تناهى إلى سمع الشيخ رجل جديد في تفكيره, فهو يتحدث عن العمال والفلاحين باحترام, ويستقبلهم في السرايا رغم أنه من عائلة ذات سمعة وقوة، وهذا مما زاد في الهمسات الدائرة في البلد
ثم يأخذ بيدنا "إبراهيم الخليل" إلى أحداث تبتعد عن مركز الرواية، والمتمثلة بالثأر فيعرض لوحات اجتماعية يرسمها بقلمه ويعريها أمامنا, فيحارب بعض العادات الاجتماعية السيئة، المورثة في الضمير الجمعي العشائري, ويبدو ذلك جلياً عنده, من خلال السرد لجوانب من النفعية والإتكالية "الشحاذة المستترة"، وبموجبها يدفع الأقرباء الميسورين لضيوفهم من فئة ما يطلق عليه "إبراهيم الخليل" (قرابة طوطمية) مبلغاً من المال ينطوي تحت مسميات (مسيار, شرهة) وهي نفعية غير أخلاقية: «فإلى جانبه جلس "شهاب الصفوري" بدوي, عجوز, من حارته له سفرة واحدة كل عام لزيارة الشيخ "لافي"، الذي يمت له بصلة قربى قبلية بعيدة, من تلك القرابات الطوطمية التي لازالت سائدة, هذه القربى تفرض على الشيخ "شرهة" – وهي مبلغ من المال غير متفق عليه – يدفعه إلى شهاب كل سنة». (2)
وظاهرة الثأر كان لها حصة الأسد من السرد، كونها الإطار الحامل للسرد الروائي, فـ"الخليل" يرفض هذه الظاهرة البدائية غير الأخلاقية, والتي تعلم الناس أن يقتلوا بعضهم, وأن يعيّنوا أنفسهم قضاة فيشرعون لأنفسهم, ويطبقون الردع على من يخرق تشريعاتهم, وتحول من ليس له فيها ناقة أو جمل, إلى مسؤول عن أخذ الثأر, وفي أحيان كثيرة يقتل من ليس له ذنب، استناداً إلى التشريع العشائري، (يقتل من كان أحسنهم): «رفع رئيس المخفر رأسه مرة أخرى, فإنكار أهل القتيل معرفتهم بالقاتل, تعني الاستغناء عن خدمات الدرك في الريف، والاعتماد على الذات في إدراك الثأر, لكن الحالة هنا تختلف فهل من الممكن أن يدرك هؤلاء البؤساء ثأراً, ربما كان ذلك هو الخاطر الذي راود رئيس المخفر فاستراح إليه». (3)
ولرصد التغيير الاجتماعي نصيبه من السرد الروائي, فمن خلال التتبع السردي للأحداث, يراعي "الخليل" التغير الذي يعتري الطبقات الاجتماعية خلال سيرورتها: «كل شيء يتغير, هذا "حبش المصلح" الذي يرعى الغنم في "بير محيسن"، ويأكله القمل والجوع والخوف من الدرك إذا ما كان في حزامه خنجر أو دبوس, ويقف أبوه كالقصبة أمام الشيخ أو أحد رجاله, بات قانوناً جديداً حل محل الشيخ, وهذا "مطلق البري" ابن أرملة "بري المعيوف", إنه اليوم في المدينة يدخل على المحافظ وقائد الشرطة, ويركب سيارات الحكومية, ويجلس في غرف مكيفة, على كرسي دوار, هذا الذي كان يحمل القهوة المرة لضيوف الشيخ, إنه الجنون». (4)
وفي الرواية رفض للواقع الاجتماعي الظالم من خلال سيطرة المشايخ على كل الخيرات, ولا يتمتع باقي أفراد العشيرة داخل التركيبة العشائرية البدوية إلا بالقليل: «ربما يستيقظ الآن كل شيء, الطفولة, والتزاحم في ولائم الأعياد على مناسف الشيخ "جدعان الناصر", وتهريب قطع اللحم والثريد في الجلابيات القذرة, مجموعة من صبية الفلاحين والعبيد, والرعاة, والأيتام, تختلط بمجموعة من العجزة, وأولئك الذين بترت ألغام الحدود بعض أعضائهم, وطلة الشيخ التي ترهب الجميع, فتقف الأفواه، والعيون، والأيدي». (5)
بالمقابل طرح النموذج الإنساني الخير الذي يحاول إنصاف الناس، وإعادة حقوقهم إليهم: «فعلاً كانت الأمور تتسارع كما قال الرجل, فالقائمقام الجديد يوم كانت البلد قائمقامية كما تناهى إلى سمع الشيخ رجل جديد في تفكيره, فهو يتحدث عن العمال والفلاحين باحترام, ويستقبلهم في السرايا رغم أنه من عائلة ذات سمعة وقوة، وهذا مما زاد في الهمسات الدائرة في البلد». (6)
وفي تسليط ضوء على الناحية الفنية في الرواية يبدو السرد بلغة رشيقة فصيحة قوية جزلة, لكن يؤخذ عليها بالمقابل الانحدار في بعض المواطن من الرواية إلى العامية السوقية، غير المقبولة والتقريرية المفرطة، وكان بالإمكان إيصال الفكرة بلغة أقل قسوة لدى القارئ فالشيخ "جدعان" (زنوة)» (7). «أبناء الكلب هؤلاء البدو والعبيد». (8). «حتى أنتم يا شوايا الكلب». (9).
والخليل كان دقيقاً باختيار الشخصيات, مع ارتكاب بعض الهفوات في الرواية, من ناحية التسلسل التمهيدي للتعريف بالشخصيات, فمثلاً شخصية "شمايل"، ما الذي أدى بها إلى الدرك الاجتماعي ذاك؟ الذي وصفه في الرواية لم يعطنا أي معلومة فقد قدمها لنا بتلك الصورة، مع أنها لعبت في السرد محور أكثر من الثانوي و"عرار" طرحه في بنية اجتماعية محافظة في حالة اجتماعية بدوية، ثم أعطانا صورة تثبت عدم محافظته، وهنا توجد مغالطة عندما ترك "عرار" زوجته مع رجل غريب لا يعرفه لوحدهما في البيت. التمهيد بالتعريف بهذه الشخصية لم يكن كافياً ومغالطاً في نفس الوقت كما ذكرنا آنفاً.
من ناحية الزمان كان موفقاً في الرصد التاريخي لزمن الرواية، وليس التاريخ, فالتاريخي حالة تراعي البنية الفنية للرواية, فالرواية ليست دراسة تاريخية بل هي أدب, فبعض الهفوات في التاريخ من خلال السرد مغفورة لضرورة تركيب العمل الروائي, فمن يقول هذا الحدث غير دقيق مثلاً أو غير حقيقي، فنقول له المهم في الرواية هو إيصال الفكرة، وليس رصد التاريخ، فالرصد التاريخي هو المطلوب هنا.
"الخليل" طرح في الرواية المكان فكانت "حارة البدو" هذه الحلقة الاجتماعية المؤطرة مكانياً واستمر السرد على هذا المنوال حتى الصفحة /70/ من الرواية التسعينية، المفرطة في تسعينياتها، والتي تقارب /98/ صفحة مع المقدمة، التي أخذت مساحة ثلاث صفحات, وفواصل الصفحات البيضاء بين الفصول الأربعة، مع خاتمة بعض المقاطع بربع أو نصف صفحة, فماذا بقي من الرواية؟
وفي الصفحة /71/ إقحام سردي حول حادثة "القائمقام" ونصرته للفلاحين ضد تصرفات الشيخ "جدعان"، ومن هنا ينقلنا "الخليل" من مكان روائي إلى فضاء روائي، والفرق شاسع، ومعروف لمن يتقن أبجديات الرواية بطريقة غير مدروسة، وغير ممنهجة على ضوء ما ذكر آنفاً.
"إبراهيم الخليل" في "حارة البدو" كان موفقاً في مواطن من الرواية، ولم يحالفه الحظ في مواطن أخرى، وكان هناك إثارة لبعض الإشكالات لكن تمت الإثارة بطريقة سردية غير موفقة.
مراجع:
1- رواية "حارة البدو" – "إبراهيم الخليل" – "دار التنوير" – صفحة /27/.
2- نفس المصدر صفحة /14 – 15/.