حين صدر ديوان الشاعر "إبراهيم الجرادي"، "عويل الحواس" عام /1995/ أُعتبر أكثر من مغامرة تجريبية، فقد اعتبره الشاعر اليمني الشهير "عبد الله البردوني" لغة من صلصال، وكتب عنه الناقد "عدنان بن ذريل" على أنه ذروة من ذروات التجديد، وانبعاث الواقع، يتساوى فيها التعبير والإيحاء، أما الناقد السوري "محمد جمال باروت"، فقد رأى في شعر الجرادي: «صوت يؤسس بامتياز، لذائقة مضادة، كون هذا الصوت، يبحث ويسأل ويحاول بجرأة تدمير أحادية الجنس الشعري».
بيد أن كل تلك الآراء لم تقدم "الجرادي" من خلال منهجية نقدية معلومة، على ما يبدو كان للذائقة آنذاك الحكم الفيصل، وقد كانوا على صواب فيما ذهبوا إليه، فـ"الجرادي" ككل أبناء ذلك الجيل من الأدباء، كان يحاول الخروج من عباءة الأنا، والدخول في حيز الآخر الثقافي، وخاصة أنه قد اطّلع على هذا الآخر ونتاجه، لا بل إنه عايش الآخر، ففي حياة "الجرادي" نقلتين مهمتين، الأولى انتقاله من قريته "بندر خان" في قضاء "الرقة"، إلى دمشق، والثانية ذهابه إلى "موسكو" بقصد الدراسة.
يعتمد "الجرادي" في نصه الشعري على مقاربة القارئ، مقاربة لا مكانية، فيتباين الحقل الاجتماعي لمسروده الشعري، بحيث تصبح السيرورة الثقافية لا تحيل إلى الفرد، بل إلى ما يصنع الحياة الاجتماعية:
/أُعلن أني، صارخا، أحرر القصائد
من وطأة البوليس والنقاد والأوابـد
وأُعلن الإنسان.../.
هذه الاقترافات القصدية، لا يمكن تبريرها إلا بوصفها ظاهرة جمالية، فاللحظة التي تتيح تجاوز الواقع في العمل الفني لا تنفصل في الحقيقة عن الأسلوب، إلا أنها لا تقوم على تحقيق انسجام وحدة إشكالية بين الشكل والمضمون، بين الخارجي والداخلي، بين الفرد والمجتمع، بل في السمات حيث يظهر التناقض:
دع الشعر إذن، يركض في الخطيئة كالزانية
وانظر صيارفة الوقت العربي، وهم يعبرون خفافا إلى مزاياهم
في أرض العورات المثقلة بالمبصرين.
وقل بخ بخ لرغبتك المرتجفة كالقيصوم اليابس.
في هذا العراء المتثاقل بمكيدته المرحة/.
هذا الخضوع المتتالي لقوانين المدلول، مؤسس على الدلالة الإيحائية، ليعطي للنص قيمة مختلفة، بطريقة تعتمد على تعليق المعنى ليجعله مستقلاً، ويربط بين عالمه الذاتي، وبين العالم اللغوي للنص، ليتخلخل الواقع، ويصبح وجوده مرهوناً بما يكتبه الشاعر عنه "أي الواقع" في النص:
/هل قلت بأن لديكم خداما من جند إلزاميين
عساكر يتهشم بين مفاصلها قرميد الرغبات
وقلت بأن الشـقة كالحانة مغلقـة بالناس..
وهذا منزلك الغامض يرفل بالقادة والسجاد
أيا امرأة تركـض عنـد ضواحي الشـعر
وتأوي لجنود الله المنحازين لحزن الشاعر/
إن المعنى الذي يسعى إلى إدراكه في حاله البكر، ينتسب بالضرورة لعالم احتجزه وعي الشاعر مسبقاً، من حيث أن العالم المعاش يضطلع بمهمة المزوّد لذاكرة الشاعر، وهذا التشخيص للافتراضات الخلفية يشكل الوزن المكافئ للافتراضات الواقعية، لتأخذ السيرورة الذاتية موقعها في منظور المعنى:
/لصباح يغتسل باليأس
ليأس يغزله، أتهدم، هذا الوقت، كالقرميد القديم
وأترك خرائبي على ناصية العالم، وملء مجدي تختصر الأنثى إلى قصيدة
والوطن إلى مساحة، والشعب إلى حشد/.
هذه النظرة سواء كانت متجهة إلى الخارج، أو إلى الداخل، فهي تستبقي كل فعل في موضوع الشخص الأول "في ضمير المتكلم"، الذي هو في موقف أدائي: "وهكذا تتم الأمور بالنسبة لازدواج المرجعية الذاتية، فيصبح شعورياً ما هو غير شعوري"1.
/أنا الشاعر: كومة الرماد في المدن الخائنة
أقطع أواصر الرحم، وأبعث النعمة في اليباب
أنا الطين: أوحال لا تبني تمثالاً
مملكة القيصوم، والعاقول، والشيح
فيّ لا في سواي، ينهض الرعد، قبل أوانه، وتحمل عروشها الطاغيات/.
في هذا السياق يأخذ السرد صيغة إعادة بناء داخلية لتطور المعنى، وهذا الاستبطان لجوّانية القصيدة - الموضوع، يتضمن استيعاب الكلمة في الدلالة المعبر عنها، للوصول إلى استقلالية النص الشعري، الذي يبتغيه، أن يرتفع إلى مستوى فاعلية مبدعة.
يلاحظ على نصوص "الجرادي" كثافة وجود لكل ما هو هامشي ودوني، ولا مركزي، يبحث لهم الشاعر عن دور في الحياة، من خلال القصيدة، وهذه الكثافة المعبأة بدلالات تفتقر إلى المرجعيات الموثقة واقعياً، فأبطاله أقل من فاعلين، يستثمر الآمال المنكسرة، يقطع مسافات الدهشة معتمراً قبعة المعنى، يستبطن الدلالات لصياغة بيانه بحماسة، يمرّ بمحاذاة الكلام مخترقاً صمت الشك، بلا يقين. هو الشاعر التواق إلى أنسنة البعد الرغبوي لاشتهاءاته، فهو ابتداء من عنوان المجموعة الشعرية "عويل الحواس"، يعلن الانتماء للصوت الداخلي، للقول المغاير، للمسكوت عنه من الرغائب، فـ"الجرادي" بهذه المجموعة يطلق الوحش من إساره الاجتماعي والسياسي، بلغة هي الأخرى خارجة على هيكلية النص الشعري العربي، وبنيته المعهودة:
ها أنت تكتب/ تكتب كل ذي غيهب متن/
وكل ذي شريعة هامش/ تكتب المتثائبين في كسل وطني كالصمغ/
وتنثني منتصبا كالرايات!
تكتب/ "النصر" المتسول/ والهزيمة – "الفوهرر"، ثم تؤدي التحية الاضطرارية/
هذا التراشق غير المتماسك المنحاز لغرائبية الصياغة، والاشتغال على اللاوعي، يأخذ باعتباره التفاعلات الموازية للتحولات الاستثنائية في بنية النص، هكذا هو "الجرادي" يمر بمحاذاة الكلام إلى المعنى المعمّى، مستنداً إلى قوة الحدس لرصد حراك النفس الإنسانية المتطلعة إلى بصيص الأمل في نهاية النفق.
المصادر:
1- القول الفلسفي للحداثة، "هبرماس"، ت: "فاطمة الجيوشي"، وزارة الثقافة /1995/.