لم تكتب "تماضر العلي" إلا وهي في الخمسينيات من عمرها، فقد هزها المرض الذي أصاب زوجها الأديب "خليل جاسم الحميدي"، وهي تمرضه اكتشفت في نفسها القدرة على كتابة الشعر، فكتبت بغزارة وفي وقت قصير طبعت ديوانها الأول "النهار العاشق"، وديوانها الثاني "لمن أغني" قيد الطبع.
عن المرض والشعر والحياة كان هذا الحوار الذي أجراه موقع eRaqqa بتاريخ (1/12/3009).
الكلمات تقودني..
** لم آنس في نفسي رغبة خاصة في كتابة الشعر، ولم أعهد فيها إحساساً بقدرتي على قرض الشعر بصورة استثنائية، ولم أمارس كتابته ولو بصورة سرية، سواء في فترة المراهقة، أو في فترة النضج، وباختصار لم أحلم أن أكون شاعرة، ولم يخطر ذلك ببالي..
جاءني الشعر فجأة، وأنا في محنتي، التي بدأت حين أصيب زوجي الأديب "خليل جاسم الحميدي" بالسكتة الدماغية بغتة، ودون مقدمات.. لقد ظهر أن المرض سيرافقنا وستطول رفقته المذمومة، أو تقصر بحسب الشفاء الذي تحسمه قوة الإرادة عنده، وستساعد على الحسم المعالجة الفيزيائية اليومية، وستكون رعايتي له الجزء الأهم من العلاج، فعلي أن أعتني به كالطفل، وكلما زاد مقدار محبتي له وتصرفت بطبيعية ساعدته على تجاوز محنة المرض، وهي محنة مشتركة عشناها معاً حتى اللحظة الأخيرة المكتوبة لنا.
كان "خليل" ينام أحياناً، وأظل وحدي أسهر على راحته، ألبّي طلبه إن أراد ماء أو احتاج إلى تعديل رقدته، فأقلّبه إلى الجهة الثانية، إلا أنه نادراً ما يطلب ذلك، بل يستمر في نوم قلق، فأجدني موزعة بين صفاء الليل وقلق النوم، فتأخذني الحال كما يؤخذ الصوفي من نفسه، فاستشعر أحياناً أيْ أقول الشعر.. وغالباً ما أجدني راضية عن نفسي، وعن دوري الجديد في حياة "خليل"، وفي قوة الاستشعار الذي أمارسه، ولم تلبث أن أصبحت كتابة الشعر هدفي كلما آنست إلى نفسي، وكنت أحس أن الشعر يتدفق أو ينثال علي، وأنني ألاحق الكلمات، وهي التي تقودني..
** لا استطيع الإجابة جازمة في هذا المجال، وإن كنت أعتقد أن الاثنين تكاملا، فقد وجدت المرأة العادية نفسها شاعرة تحسن التعبير عن نفسها..!
بالشعر دافعت عن حياتي..
حسب الديوان الأول "النهار العاشق" لم يكن الشعر حزيناً، أو مريضاً، أو معبراً عن الحالة التي أعيشها.. ربما كان هذا هو سر الشعر أو إضافته.. لقد كتبت قصائد محبة للكون والبحر والنهر والسماء والأرض والناس، لقد تعرفت على العالم من جديد، وكأنني لم أعرفه من قبل، أو كأنني كنت أراه من خلال الآخرين سواء أكانوا أهلي، أم زوجي، وفي الديوان قصائد عشق كلها كانت لـ"خليل" حبيبي وزوجي ومعلمي, وقد قلت فيها ما لم أقله سابقاً في زحمة الحياة التي تأخذنا من أنفسنا.
المسألة الأهم في كل هذا أنني تجاهلت المرض، ولم أذكره أو أخض في تفاصيله وكأنه غير موجود.. دافعت عن حياتي التي يجب أن أعيشها بضراوة، ولم أسمح للمرض أن ينغص علي صفوي، لقد ألغيته حين تجاهلته، وعشت الحياة كما أريد.. لقد عشت الحياة الحقة بامتلائها في قصائدي، أو هذا ما تدعيه تلك القصائد الحميمة.
** لم أعترف بأن "خليل" مات، وذلك ما قلته في الفقرة السابقة لكنها ربما لم تكن واضحة، فأنا لم أعترف بالمرض، كما لم أعترف بالموت, وهي الكارثة الأكبر، ولو اعترفت بهما لما كتبت ولربما كانت حالي بائسة.. لقد ظل خليلي، وظل يعيش معي، وأنا لا استذكر عصره الذهبي الذي مضى معه، وإنما مازلت أعيشه.. بالشعر تجاوزت محنتي، وعشت حياتي، وكأنني لا أعاني، فقد قفزت خارج الزمن، وعشت كأنني أعيش في أسطورة صنعها الشعر وصاغها، ورضيت بها إلى حد أن الأسطورة تكاد تكون واقعاً، فأنا حتى الآن لم أفق من انثيال الشعر، ومن خيالاته، ومن أفقه مع أنني أنجزت ديوانين، طبعت الأول، وسأطبع الثاني قريباً.
لا أظن أن ثمة فرق كبير بين ما كتبته أولاً، وبين ما كتبته ثانياً، لقد عملت على المنوال نفسه.. والقسمة بين الديوانين هي قسمة كمية, وليست قسمة معنوية، فموضوعات الديوان الثاني هي نفسها موضوعات الديوان الأول، والتجربة واحدة.
** إنها الحال التي تحدثت عنها سابقاً، فأنا لم أغادر الحياة التي دخلتها منذ أن هاجمنا المرض والموت... وأنا أرغب حتى الآن أن أبقى هنا في هذا العالم الذي صنعته القصائد.. أو صنعته لنفسي..!
** الحضور ليس لحياتي الشخصية، فهذه ليس لها قيمة إلا بالنسبة لصاحبها، ولكنني أتحدث عن البعد الإنساني في حياتي.. البعد الإنساني صاغته القصائد أو اكتشفته أو وعته، ويتلخص في أنني عشت حياة واحدة غنية، كل تجربتي هباء، لا معنى لها، إنما حياتي التي عشتها بامتلاء كانت مع زوجي المريض، حيث تمتعت بحريتي، وأحببت حتى الجنون، وكان حبي لزوجي الذي أريد أن أقتنص ساعاتي الأخيرة معه.. لذلك لا أراه مريضاً.. بل أخلصه من مرضه لأنعم باللحظات الحلوة من عمرينا معاً، المرض ليس الأصل، الأصل هي الصحة والمحبة، لم نمرض من قبل، ولا نقبل أن نكون مرضى الآن، في الوقت الذي حررنا المرض من خوفنا، ومن أنفسنا، ومن صحتنا المرضية ...
السحر حلال
** كل ما كتبته أصبح غالياً علي.. كأنني العقيم التي أنجبت ولداً وحيداً لذلك فإنها تحرص عليه أكثر مما تحرص على مهجتها، وكذلك حال الشعر الذي هو منقذي الوحيد ومخلصي من مخاوف المرض والموت والفقد، لذلك أريده منشوراً ومطبوعاً يتداوله الناس، يتحدث عني وعن حياتي.. وما زلت أعيش فيه.. وليس في الواقع..
** من يحدد التجربة الجديدة من عدمها؟ أظن أنني الأكثر قدرة على تحديد ذلك، وأنا أرى أنني أعيش تجربة جديدة، وإن طالت، وإن خالطتها الأحلام أو الأوهام.. أنا لم أكن امرأة غادرت عمرها وتركته خلفها، أبداً أنا ما زلت شابة تعيش عمرها، ولا تعيش في ماضيها، إنني أبدأ من جديد ، بل أنا أعرف أنني بدأت من قديم تجربة ما تزال جديدة..
** إن كان الشعر يفعل ذلك فهو سحر حلال، ونحن لا نستطيع أن نفصل الأوهام عن الحقائق، أليست بعض الأوهام أقوى من الحقائق..؟ ثم هل نستطيع أن نضع سقفاً أو حداً لأحلامنا..؟
الشعر يحركه الحلم والخيال.. ولعل إرادتي في أن أكون حاضرة في مجتمعي، فعالة مشاركة في الأمسيات الشعرية واللقاءات الثقافية، ومنتسبة لجمعية تعنى بالأدب والفنون هو الجانب الواقعي الذي سيفرض نفسه، فيزيح الوهم الذي لن يطول.. فإن طال فهذا يعني أننا دخلنا في الجنون الذي لا شفاء منه.. وأننا لم نعد نحيا.. وإن كنا مازلنا نعيش أو نتنفس الهوا الغربي..!
** لا... لقد عشتها في الواقع مع "أبي سهيل"، "خليل جاسم الحميدي".. لكنني أعدت اكتشاف حياتي.. وكتبتها في قصائدي مرة أخرى، فأنا لم أعش في وهم، إنما في الحقيقة التي وعيتها لاحقاً.. أو وعاها الشعر عني..!