من الملاحظ أن غالبية إصدارات كتاب "الرقة" كانت في العقد الأخير من القرن العشرين؟ تلك الحقبة كانت حقبة حراك ثقافي، تزامن معها صعود أسماء مستها نار الجحيم فأضاءت، من هذه الأسماء كان اسم "معن مصطفى الحسون" الذي توزع إنتاجه بين التأليف والترجمة، وقد اخترنا من مؤلفاته مجموعة "ألم الشك" الصادرة عن "دار الحوار" عام /1999/.
في هذه المجموعة حاول "الحسون" أن يقول كلمته في عالم الإبداع الأدبي، وقد اختار فن القصة كحامل موضوعيّ لتلك الكلمة ـ الهاجس.
ولكن وظيفة اللغة هذه لا تقف بها عند هذا الحد، إنها تتجلى أيضاً في قدرتها على قول أشياء، تبقى إزاءها قدرات الإنسان المعرفية عاجزة عن إدراك ماهيتها ومكوناتها العقدية. وهي إذ تقول هذا، تخلق له حيرة معرفية ضرورية لوجوده
«خفق قلبي، كل شيء يبدو مريعاً وسرياً هنا، انتابني بعض الارتباك، لكني تماسكت قائلاً في سري إن من يمشي في طريق عليه أن يصل حتماً. نهضت متثاقلاً، توجهت صوب الدرج، وقبل أن أصعد حانت مني التفاتة نحو الرجل كمن خطر له خاطر، لكن الرجل ابتسم بحنو وهو يقول:
في هذا المقطع يتضح أن الاشتراك الدلالي لا يقوم على علاقة بين معنى مسمى، ومعنى مسمى، ولكن على معنى الصورة التي يبينها الأسلوب، ومعنى الصورة التي يمكن للقارئ أن يتخيلها، فحقيقة الخلق اللغوي، يأخذ في حسابه مسبقاً، وفي تواضع ضمني، اللعبة التي يقتضيها الفن، وخاصة الفن الذي يقتضي وجوده الكلمة، فالبلاغة والمواربة وما وراء الكلمات وما بينها وما يقتضيه الموقف إلى غير ذلك.. تجتمع كلها لتشكل بنية النص الكلامية والمعرفية:
«ولكن وظيفة اللغة هذه لا تقف بها عند هذا الحد، إنها تتجلى أيضاً في قدرتها على قول أشياء، تبقى إزاءها قدرات الإنسان المعرفية عاجزة عن إدراك ماهيتها ومكوناتها العقدية. وهي إذ تقول هذا، تخلق له حيرة معرفية ضرورية لوجوده».
وهذه الحيرة هي التي ميزت شخص "معن الحسون" وأدبه، نلاحظ ذلك من العنوان الذي وسم به مجموعته، "ألم الشك"، إضافة للنصوص المتضمنة بهذه المجموعة:
«تابعت صعودي. قال لي "زيوسودرا" لا يسمح بدخول القلعة إلاّ لمن بدأ بالتو يشب عن الطوق، يدرك مغزى الحياة. لمن بدأ يشكل عالماً صغيراً خاصاً به. ولا يسمح بالدخول إلاّ لمن يكثرون التساؤل ويلحون فيه. لمن يأكل القلق أكبادهم. من يخشون عاقبة المصير. أو الخذلان في الحياة الدنيا والآخرة. من يبكون؟ من يجدون الغرابة عالماً محيطاً بهذا الكون؟».
إن الإبداع يقتضي أحياناً الابتعاد عن الأسئلة الاختبارية والمعيارية التي يمكن معالجتها بوسائل علم الاجتماع، أو بأسلوب الحجة العقلية، باعتبار أن مصائر الوجود ممتنعة على التصور، فجاءت الرؤى الميتافيزيقية لتملأ شواغر بيانات التصور الإنساني، في بعديه المعرفي والإبداعي، حيث البحث عن المتواريات في كل الظواهر، لإنتاج الفروق بين مكونات عناصر الموضوع التي يحيل بعضها إلى البعض الآخر في داخل النظام العام للنص:
«راعني ما سمعت، لكني التزمت الصمت، ولم أفه بحرف، بل واصلت النزول، كان درجاً طويلاً، لولبي الشكل، وكنت أتبع الرجل، جعلنا نهبط الدرج، الهبوط في العادة سهل، إنه أيسر من الصعود، قلت بأنه هذه هي حال الدنيا، لم أكن أشعر بالتعب، لكن الدرج استطال، استحال إلى طريق طويلة لا نهاية لها، جعلنا نهبط ونهبط دون أن نصل إلى قرار لهذا البئر الكوني الغريب، تأوبني القلق والخوف. سألت الرجل: ألن ينتهي هذا الدرج؟
تمتم بكلمات غير مفهومة، ثم واصل نزوله غير عابئ بما ينتابني من ريبة وحيرة».
إن هذه الرغبة في الغوص ومعرفة جوانية البعد الوجودي للوجود الإنساني، وكشف المحجوبات تجعله دائماً في مواجهة القلق، وفي حالة مراجعة دائمة، تتجلى في الأثر الفني"النص" الذي هو بطبيعته الأقدر على رصد مواطئ قدم الخيال الإنساني، وتقديمها بالصورة التي تليق بالإنسان، وبذلك يغدو الفن معرفة تكشف من خلالها الذات موضوعها، مع الأخذ بعين الاعتبار رمزية اللغة:
«دخلت عالم الغرف والممرات، كانت العتمة ممزوجة بأضواء خافتة، تتسلل من نوافذ عالية، تدلف إلى الداخل بقية من ضوء القمر والنجوم، تنير المكان. ضوء يأتي من الأعلى. وعليه يعيش الناس في داخل هذه الغرف، يمارسون حياتهم العادية كما لو أن شيئاً ما لم يحدث، رجال ونساء وأطفال، يولدون ويتزاوجون ويمارسون ألواناً من العبادات والطقوس الغريبة، لم يلحظ أحد ما وجودي، كان يبدو أن الكل منصرف لشأنه. تجاوزت كل الغرف، فقادتني قدماي إلى غرف أخرى. هذه متاهة. لا بدّ أني أحلم. أو من الجائز قد أصابني عته. كما أني أكاد لا أحتمل صمت الناس وتجاهلهم لهذا السجن المروّع».
دائماً ثمة مكان في نصوص "معن الحسون" للتماحك بين واقع الحدث والواقع المتخيل، مما يؤكد أن الكتابة كممارسة دالة تلتزم بتفكيك المعطيات الواقعية، وتوزيعها في نسيج النص، وهذه العملية يصح أن نطلق عليها اسم إعادة إنتاج للواقع والحلم بآن واحد، فالمبدعون:
كبعض الناس هم فإذا استثيروا/ فبينهم وبين الناس فرق
وهذا الفرق يتجلى بإعادة إنتاجهم للمعطيات الواقعية التي يشترك معهم كل الناس بمعرفتها، ولا يشتركون بإعادة إنتاجها، فالتعامل مع مادة الواقع يختلف من شخص لآخر، أما الأحلام "وصيغها أكثر من أن تحصى، وتصنيفاتها كذلك" هي الماء التي يعجن بها المبدعون تربة المعطيات الواقعية، لينتجون نصوصهم أو لوحاتهم أو معزوفاتهم إلى غير ذلك... نلاحظ أيضاً على نصوص المجموعة غلبة الهذيان المتقطع، وهي طريقة أكثر تجريبية، ورشاقة مع سيطرة لثنائية الفاعل/الموضوع، وهذا الشكل ليس حبيس المعنى كما يفترض، فاختراق مفهوم المضمون، يفرض نظاماً للمعنى لا ينغلق على نفسه، كما يقول "رولان بارت".
«شارة أخرى.. إن كل شارة جديدة تنتصب في داخلي كرمز للوصول، لتحقيق شيء ما، أخال نفسي قد وصلت، لكني مدرك في الوقت نفسه أنها مجرد شارة، وأن عليّ أن أتابع.. آه إن هذا مرهق حتى للحديد الذي أمتطيه.. ألن أصل أبداً؟ أكاد أحسّ بأني أرهقت، حتى المارة – والأمر بالتأكيد لا يعنيهم- لكني أتساءل إلى أين يذهب كل هؤلاء الناس؟ كل أكوام الحديد هذه؟ هذه المدينة بأسرها؟ إلى أين يذهب كل هذا؟ بل على العكس من ذلك، قد يكونوا معنيين بالأمر جيداً، بل قد لا يكون لهم هم سواه».
إن إبراز هذه السيرورة التي تقوم على وعي إرادة القوة تدفع نحو تجاوز القبليات المزعومة الناجمة عن دوافع لا شعورية تحد الإدراك، واستخلاص المعنى المثالي للدلالات، مما يخرج هذه النصوص"القصص" من أشكال السرد الطبيعي ذو الخصائص البنيوية المتماثلة، لأن الأمر لا يتعلق بصناعة ما هو حقيقي، فالحقيقي في الفن، اليوم، هو الزائف غداً، المهم أن يعطى النص بنية، شكلاً عضوياً، شكل قصة، ليتحقق منطق الأثر الأدبي، فكل بنية جديدة، تنتج عنها غاية جديدة، وبما أن المعرفة لا يمكنها أن ترجع إلى الوراء، فهي تمنعنا أيضاً من الرجوع إلى الوراء، فالشيء الذي أدركه الإنسان قد أصبح جزءاً منه، وهذا الجزء من إدراك الكاتب المتمثل بالقلق، والشك تجلى في مجموعته القصصية التي هي مثار دراستنا، لدرجة تطابق معها العنوان بالمضمون.
المراجع:
1- "الأسلوبية وتحليل الخطاب"، د. "منذر عياشي"، "مركز الإنماء الحضاري"، /2002/.
2- "رولان بارت"، "فرانك إيفرار"، "دار الينابيع"، ت: د. "وائل بركات"، "دمشق" /2000/.