"ضجيج الروح" هي المجموعة الرابعة للأديب "صبحي الدسوقي"، وهي الكتاب الخامس في سجله الإبداعي، فقد أصدر قبلها ثلاث مجموعات قصصية، ودراسة ببلوغرافية عن الحركة الثقافية في محافظة الرقة، وانطلاقاً من التواريخ المدونة على الإصدارات، نتبين أن الأديب "صبحي الدسوقي" منذ عام /1978/، الذي هو تاريخ نشر مجموعته الأولى "الذي ترك المدينة" وهو في هذا الإطار الأدبي.
ما يعني أن أي قراءة نقدية لأي عمل من أعمال هذا الأديب، يجب أن تأخذ بالاعتبار هذا التاريخ، فالنص يثبت بالكتابة، ولكنه يصبح وثيقة حين ينشر، وهذه الإشارة إلى تاريخ الإصدار لا تعني أننا سنستعرض "إنتاجيته"، أو سنرده إلى خلفيات اجتماعية أو تاريخية، فعلى أهميتها تبقى هذه العناصر شبه ثانوية، من حيث أننا ننظر إلى النص- في هذه القراءة - على أنه تأليف أي بناء، وتركيب أي صياغة باعتباره معطى لغوي. وقد اخترنا دراسة الإحالة الكلامية لمعرفة الخصائص الأسلوبية في المجموعة.
اقترب منها رجل- ابتسمت له- اقتربت منه امرأة جميلة- التفت إليها بسعادة
«بعد أيام كان عليها السفر إلى عملها، ودعها قبل أن تصعد السيارة، وتواعدا على اللقاء، جلست في مقعدها، اقترب منها رجل، ابتسمت له وهي تبتعد باتجاه النافذة، قدم لها الرجل قطعة "سكاكر" أخذتها شاكرة ثم التفتت إليه مبتسمة:
ابتسم الرجل وخمن في داخله أن رحلته لن تكون قاحلة.
وبعد أنهى "غريب التعبان" أعماله في المدينة الكبيرة، حمل حقيبته وصعد السيارة، تذكر رفيقة سفره التي ودعها منذ يومين، قرأ عنوانها، ثم قام بتمزيقه عندما اقتربت منه امرأة جميلة، جلست إلى جواره بحيوية، التفت إليها بسعادة: ما هو برجك أيتها الآنسة؟».
هكذا تنتهي القصة الثالثة في المجموعة، التي حملت عنوان: "هي وهو"، إن متابعة العلامات اللغوية الواردة في هذا المقطع، والذي هو كما أسلفنا يشكل خاتمة قصة، نجد أن المداليل قائمة بدون دلالات!!
«اقترب منها رجل- ابتسمت له- اقتربت منه امرأة جميلة- التفت إليها بسعادة». إذ أن المفارقة واضحة بين التعبير الذاتي والتعبير الموضوعي، فإذا أردنا تحديد المرجعية المستهدفة في هذا المقطع، نرى ذات السارد قد احتلت موقع العبارات الإسنادية الغائبة، فذات السارد احتلت مكان المسند إليه، وبالتالي فقد الإرجاع وظيفته، دون تبرير منطقيّ، مما أخرج النص من إطاره العام، وهذا ما نلمسه بوضوح أكثر في قصة "انتحار قلب": «دخل حانات المدينة، أفرغ الكؤوس في جوفه، وعندما بدأ بقضم الكؤوس قذفته الأيدي والأرجل خارجاً. ارتمت معه على الرصيف وجوه النساء اللواتي مررن بحياته، وأسلمنه للمزيد من الضياع، ووجوه الأصدقاء الذين توافدوا إلى صدره فرحين باستخراج ما يريدون وتحويله إلى تقارير تحاول تشويه صورته، التي جاهد في إبقاء النقاء هالة تحيط بها، و"نارا" المرأة الحلم التي ولدت من أوجاعه، وكانت تحمل له الأمل في أن تكون البديل الحقيقي لكل النساء، والتي تمكنت أنوثتها من إشاعة حالة فرح وحب حوله إلاّ أن الأيدي الصديقة سرعان ما قامت بزرع حقول من الخناجر تهدف إلى إجهاض عشقها».
من الواضح أن لكل من هذين المقطعين خصائصه التي يختلف بها عن الآخر، بيد أنهما يشتركان بانتمائهما للسياق نفسه التي وضعت فيه المجموعة، فمن الضروري التفريق بين المعنى المجرد من دلالاته، والمعنى الذي يتضمن القيمة، فالبنية والشكل والإيقاع والتعبير.. تعد أكثر من كونها فضاءات في فن القصة، فمؤثر أي عنصر يعتمد على العناصر المترافقة معه، وقد لاحظنا على مجموعة "ضجيج الروح" أنها قائمة على منظومة قيم عاطفية، لم تستطع اللغة التي كُتبت بها أن تتوازى مع دفقها العاطفي، فافترقت عنها لتشكل جزراً متجاورة في القصة الواحدة، ولكل جزيرة منحى في السياق العام للقصة، دون أن تنتظم في نهاية تجمع أحداثها في إطار واحد، والاحتفاظ بتلك الاستقلاليات المتجاورة أصبح من عوامل التشتت، وليس التوافق والترابط والانسجام.
«قالت المرأة غاضبة:
ابتسم لها في محاولة لامتصاص غضبها، لكنها تابعت مزمجرة: قارن حذاءك بحذاء المدير، إنه جميل ومتين وقوي ولامع دائماً.
حاول أن يشرح لها الوضع المادي المأساوي الذي يمر به، قال لها مازحاً: عندما تتزايد الديون تتناقص قدرة القلب على الحب والفرح.
حملت حقيبتها بعصبية: عليك اللعنة وعلى ديونك.. إن لم تكف عن شتم المدير، وتغير حذاءك فنهايتك قريبة. وارتطم الباب خلفها».
هكذا تبدأ قصة "حذاء عالي الجودة" القصة العاشرة في المجموعة!! ثمة أحذية كثيرة تشير إليها القصة: إضافة لحذاء المدير، هناك حذاء الحارس، وحذاء المسؤول، وأخيراً الحذاء الذي صنع في أمريكا، ولكل حذاء خصص القاص مقطعاً من القصة يروي فيه كيف وقعت عينا "غريب" الذي هو بطل القصة على ذلك الحذاء، دون أن يأخذ السارد في حسابه أهمية الإحالة الكلامية في صيغة النص، وتقنياتها وخصائصها، مما جعل لغة القصة تدور في فلك السرد الإشاري، وهذا النوع من السرد غالباً ما يستخدم في لغة الصحافة، حيث تشكل سياقات النص وحدات متكاملة، ومستقلة إلى حدٍّ ما.
ثمة قصة من قصص المجموعة حملت اسم "الانتظار الطويل"، والتي هي آخر قصة في المجموعة، بإمكان القارئ أن يميز من خلالها بين اللغة التي هي ظاهرة اجتماعية تتيح التواصل بين أفراد البيئة الواحدة، وبين الكلام الذي يرتد إلى "سيكولوجيا" الفرد، من حيث هو وسيلة تعبيرية تبرز عواطف الفرد وانفعالاته وحياته الوجدانية، كما يقول "محمد عزام".
«ما أطول الليالي التي سهرتها، وما أمرها، عبثاً أسلي نفسي بقراءة كتاب أو مشاهدة مسلسل تلفزيوني، وأجدني منصرفة إلى التفكير فيك وفي جسدي، أتذكر لقاءاتنا، وزواجنا، وشهر العسل، وفرحتي به، وتفاصيل خلافاتنا القصيرة، ثم أعاود رسم ساعات الحب التي قضيناها، فأجدها تتلاشى من ذاكرتي وتمحى.
أرتدي قناع الفرح وأتصنع الابتسامة خلال زياراتي المتباعدة إليك، وأذكرك باشتياقي وانتظاري، أعطيك أملاً بالحياة، ويخبو الأمل فيَّ رويداً.. رويداً».
هذه الذاكرة التي تمتدّ من الحاضر إلى الماضي لتتمحور حول "أنا" السارد بتقنية السرد الزمني التي تتمثل في تلخيص الموقف، واعتماد الصيغ التبادلية في استعمال الزمن، فالانتقال من الحاضر إلى المستقبل، ومن الشعور إلى الإدراك، ومن الإحساس إلى المتابعة حمّلت كل مقطع من مقاطع القصة مسؤولية البعد الدرامي للقصة كلها، فالصراع بين الذات والموضوع قائم بكل المقاطع، مع الأخذ بعين الاعتبار الصيغة التبادلية لإبراز الصراعين على حدٍّ سواء، الصراع الداخلي القائم في نفس البطلة، والصراع المعلن بين البطلة وزوجها العائد من السجن.
من الواضح أن تجربة القاص "صبحي الدسوقي" في هذه المجموعة "ضجيج الروح" تنتمي إلى عام /1995/ وما قبله، تلك كلمة حق، فتجربة جيل كامل من كتاب القصة في محافظة "الرقة" تنتمي لذاك التاريخ، والتجارب الإنسانية المتجاورة لها من التأثير على بعضها البعض ما لها.. وإننا لنلمس الدور الذي يقوم به الإطار الثقافي العام في محافظة "الرقة" على الإنتاج الأدبي.
المراجع:
1ـ "محمد عزام"، "الأسلوبية"، وزارة الثقافة /1989/.