تقع مدينة الفار على بعد /75/كم، شمال مدينة "الرقة"، على الكتف الأيسر من وادي "البليخ"، وعلى بعد /5/كم، من سرير النهر المذكور، بالقرب من قرية "حمام التركمان"، الواقعة جانب نهر "البليخ"، وتبعد أيضاً مسافة /5/كم شمالاً عن تل "صبي الأبيض".
وتعمل في الموقع بعثة سورية ألمانية مشتركة، وذلك منذ عام /1986/، وبشكل متقطع، وكانت تعرف هذه المدينة بحصن "مسلمة بن عبد الملك"، وهناك العديد من المدن التي تحمل اسم مدينة "الفار" قرب "معرَّة النعمان"، و"مسكنة"، وعلى ما يبدو أن العباسيين هم من أطلقوا عليها اسم مدينة "الفار" للنيل من سمعة الأمير الأموي "مسلمة بن عبد الملك" الذي ترك بعض مواقعه للبيزنطيين، فدعيت تلك المواقع باسم مدن "الفار".
يرى بعض المؤرخين ومنهم المرحوم الأستاذ "مصطفى الحسون"، أنّ بناء مدينة الفار على بعد /6/كم، شرقي مجرى "البليخ"، كان لسببين أساسيين: أولهما، إبعادها عن خطر فيضان النهر في فصل الربيع، وثانيهما، أرضها المنبسطة الملائمة لبناء مدينة لها صفة عسكرية قريبة جداً من أرض الروم
وللحديث عن واقع المدينة الأثري والتاريخي، التقى موقع eRaqqa بتاريخ (1/12/2008)، مدير آثار ومتاحف "الرقة"، السيد "محمد السرحان الأحمد"، الذي قال متحدثاً: «تبلغ مساحة المدينة /94/ هكتاراً، وهي على شكل حصن و 12 برجاً، يأخذ مخططها العام شكل التحصينة المضلعة للقسم الشمالي، حيث المسجد الجامع ودار الأمارة، وسكن القادة والأعيان، أما قسمها الجنوبي أقرب ما يكون للشكل الدائري، يفصلها عن بعضها مسيل قادم من الشمال الشرقي، يدعى نهر "سلوك"، وقد تم الكشف عن مجموعة من القصور شيدت أساساتها من الحجر المشذَّب، أما الجدران فبنيت من الآجر والجص، وكذلك ما تبقى من الباب الشمالي والجنوبي، والتي تذكرنا هندسة عمارتها بهندسة القصور البادية الأموية، في قصر "الحير" الشرقي والغربي، و"الخرانه"، و"الأزرق"، و"الحلابات"، وقد زينت جميع أبواب ونوافذ ومحاريب الصلاة في المباني المكتشفة بأفاريز جصية ذات طبعات تختلف عن رسوم النباتات، وهي ذات مواضيع مدهشة».
ويكمل "الأحمد" حديثه لموقعنا بالقول: «تم الكشف عن خزانات وأحواض تجميع المياه، وقنوات صغيرة تحيط بالأبنية الأصلية في التجمع البنائي الشمالي، لأغراض الحمامات والمطابخ، ومنها حمام صغير يقع إلى يمين مركز الحصن، و/16/ عموداً منخفضة ودائرية تحيط بحوض مثمن الأضلاع، ذي طينة وملاط غير نافذ للمياه، وقد تهدمت المباني بفعل الهزات الأرضية».
وللوقوف على تفاصيل أخرى، فقد التقينا الباحث الأثري "محمد العزو"، الذي حدثنا قائلاً: «تتكون مدينة الفار من مجموعة من الخرائب والأطلال المتهالكة، كالتي نصادفها اليوم في مدينة "الرصافة" الأثرية، ويبدو أنَّ مخطط المدينة جاء مطابقاً للحالة الطبوغرافية للموقع، إذ إنَّ الضلع الغربي للمدينة أخذ شكلاً ممتداً بشكل طولاني، ومتقدم في الوسط بزوايا شبه قائمة، وكذلك الأمر بالنسبة للضلع الشمالي، فهو مشابه للضلع الغربي، وقد بلغ طول المدينة من الشمال إلى الجنوب، حوالي /1400/م، وعرضها من الشرق إلى الغرب، حوالي /900/م، وتخترق هذه المساحة قناة أو نهر صغير جاف صيفاً، وفي السنوات المطيرة تكون مياهه جارية حتى في الصيف، وإلى الشرق توجد قناة كبيرة وهي مأخوذة من نهر "البليخ" لإرواء الأراضي الزراعية المحيطة بالمدينة آنذاك، أما حدود المدينة من الجهتين الشرقية والجنوبية، فهي غير واضحة المعالم بسبب التعديات التي تعرض لها الموقع، في تلك الأطراف من قبل الأهالي، أثناء قيامهم بحراثة الأراضي البعلية، بواسطة الجرارات الحديثة، في بداية العصر العباسي تعرضت المدينة لتدمير كامل، أتى على كل بنيتها المعمارية، لذلك نجد أنَّ الهضاب والمرتفعات القليلة الارتفاع، تخفي في ثناياها البقايا المعمارية، التي تتكون منها مدينة "الفار" القديمة، وتشير هذه المرتفعات إلى وجود فناءات، وباحات تلتف حولها مجموعة من الغرف، كانت في الماضي تشكل دور وبيوت السكان، وبعضها كان لها صفة تجارية، وهذا الأمر لم يتضح إلاَّ بعد إجراء التنقيبات الأثرية في الموقع، تمتد مباني المدينة على أرض منبسطة باستثناء بعض المرتفعات الخفيفة».
وعند سؤال "العزو" عن سبب بناء هذه المدينة بالقرب من نهر "البليخ"، قال: «يرى بعض المؤرخين ومنهم المرحوم الأستاذ "مصطفى الحسون"، أنّ بناء مدينة الفار على بعد /6/كم، شرقي مجرى "البليخ"، كان لسببين أساسيين: أولهما، إبعادها عن خطر فيضان النهر في فصل الربيع، وثانيهما، أرضها المنبسطة الملائمة لبناء مدينة لها صفة عسكرية قريبة جداً من أرض الروم».
أما عن ورود اسمها في كتب التاريخ، ونصوص المؤرخين، فيقول "العزو": «لقد ورد ذكر المدينة في الحوليات التاريخية والأدبية العربية، كما ذكرها أغلب الرحالة والمؤرخون العرب، ومن النصوص التي وردت في كتب المؤرخين حول حصن "مسلمة"، يقول "البلاذري" في كتابه "فتوح البلدان": (لمَّا ولي "معاوية" الشام والجزيرة، أمره الخليفة "عثمان بن عفان"، رضي الله عنه أنَّ ينزل العرب بمواضع نائية عن المدن والقرى التي لا حقَّ فيها لأحد، فأنزل "بني تميم" الرابية، منطقة "شنينة"، وأنزل "المازمين" و"الديبر"، أخلاطاً من "أسد" و"قيس" وغيرهم، ومثل ذلك في جميع نواحي ديار "مضر")، ويقول "المقدسي" في كتابه (أحسن التقاسيم): (وأما ديار "مضر" فقصبتها "الرقة"، ومن مدنها "المحرقة"، و"الرافقة"، "خاتونة" في "الحريش"، "تل محري"، "باجروان"، حصن "مسلمة"، "ترعوز"، "حران"، "الرها"، والناحية "سروج"، "كفر زاب"، "كفر سيرين")، وفي كتاب (الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة)، لـ"ابن شداد" نجد ما يلي: ("مسلمة بن عبد الملك بن مروان"، هو الأمير "مسلمة بن عبد الملك بن مروان" الأموي، ويلقب بـ"الجرادة الصفراء"، وكان موصوفاً بالشجاعة، والإقدام، والرأي، والدهاء، ولي "أرمينية"، و"أذربيجان"، وسار في مئة وعشرين ألفاً، وغزا "القسطنطينية"، في خلافة "سليمان" أخيه، توفي سنة /121/هـ/738/م)، أما "ياقوت الحموي" فيقول حول حصن "مسلمة" ما يلي: (بالجزيرة بين "رأس العين" و"الرقة"، حصن بناه "مسلمة بن عبد الملك بن مروان بن الحكم"، وبين "حران"، وحصن "مسلمة"، تسعة فراسخ وهو على طريق القاصد لـ"الرقة" من "حران")، وفي موضع آخر يقول "ياقوت" عن "البليخ": (الخاء معجمة اسم نهر بـ"الرقة"، يجتمع فيه الماء من عيون، وأعظم تلك العيون، عين يقال لها "الرهبانية" "عين العروس"، في أرض "حران"، يجري نحو خمسة أميال ثم يسير إلى موضع قد بنى عليه "مسلمة بن عبد الملك" حصناً يكون أسفله قدر جريب، وارتفاعه في الهواء أكثر من خمسين ذراعاً، وأجرى ماء تلك العيون تحته، فإذا خرج من تحت الحصن يسمى بليخاً، ويتشعب من ذلك الموضع أنهار تسقي بساتين وقرى، تصب في "الفرات" تحت "الرقة" بميل)».
وعن تكرار هذا الاسم لأكثر من موقع، يقول "العزو": «هناك موقع آخر يسمى "مدينة الفار"، إذ وجدت على خرائط المساحة العسكرية الجغرافية ذات المقياس (200000/1)، اسم "مدينة الفار" الواقعة جنوبي مسكنة "بالس" القديمة، الواقعة بين "الرقة" و"حلب"، وهذه حقيقة مؤكدة لكون القائد "مسلمة" قد عسكر في هذه المنطقة، حسب ما جاء في المصادر التاريخية، وبهذا الخصوص يذكر "ياقوت" ما يلي: (فلما كان "مسلمة بن عبد الملك"، توجه غازياً إلى الروم، عسكر بـ"بالس" "مسكنة القديمة"، فأتاه أهلها وأهل "بويلس" و"قاصرين"، ولعلها "صرين" المعاصرة، و"عابدين"، و"صفين"، وهي قرى منسوبة إليها، فسألوه جميعاً أن يحفر لهم نهراً من "الفرات"، ليسقي أرضهم على أن يجعلوا له الثلث من غلاتهم، بعد عشر السلطان الذي كان يأخذه، فحفر النهر المعروف بنهر "مسلمة"، ووفوا له بالشرط).
أما عن الحفريات التي تمت في هذه المدينة الأثرية، فيقول "العزو": «بدأت الحفريات الأثرية المنهجية في مدينة "الفار" منذ عام /1981/م، ولكن بشكل متقطع، إذ أنه خلال الثمانينيات من القرن الماضي، لم تنفذ إلاَّ ثلاثة مواسم تنقيبية، وفي موسم عام /1989/م، تم تقسيم الموقع إلى ثلاثة قطاعات /1و2و3/، كانت مقسمة من قبل هذا الموسم، وفي هذا الموسم استمر العمل في القطاعات الثلاثة لمدة ثلاثة أشهر، وفي المواسم اللاحقة تم الكشف عن أهم المجموعات السكنية في المدينة، وبشكل عام نستطيع القول إنَّ الموقع يضمّ مجموعة من الحفر السطحية، وهي تشبه تلك التي ألفناها في مدينة "الرقة"، عند منطقة جامع "المنصور" القديم، قبل التوسع في البناء الحديث، وتشاهد اللقى المتناثرة في هذه الحفر السطحية، والتي تشير إلى وجود أبنية بقي منها فقط الجدران، بارتفاعات تتراوح بين المتر الواحد، والنصف متر، وهي مبنية من مادة الآجر المشوي على أساسات من الحجر الحواري الأبيض، ففي القطاع الغربي، وبالتحديد بموازاة الضلع الغربي من سور المدينة، وعلى بعد /50/م، من برج الزاوية الشمالي الغربي، ظهر بناء له عقود من مادة الآجر، وهذا البناء مملوء بالأنقاض، والآكام، حتى مستوياته العلوية».
ويختتم "العزو" حديثه بالقول: «بعد تنظيف المكان من الأنقاض، تبين أنَّ هذه المنشأة تعود إلى بناء معقود على شكل خزان ماء، كان يأخذ الماء من رأس قناة صغيرة قادمة من جهة الغرب، وهي على شكل نافذة تنتهي بقوس مروس محطم، عثر عليه ملقياً في وسط البناء، من الجانب الشمالي، ويتكون خزان الماء هذا من ثلاث قبوات متصلة، يفصل بينها دعامات عمودية، من مادة الآجر، تنتهي بأقواس مروَّسة، قياس الواحدة منها /80× 45/سم، وطول القبوة الواحدة /575×412/سم، والارتفاع يعادل العرض تقريباً، أما الطول العام للخزان /18,85/م، ومقاس الآجر بشكل عام /22×22×/4 سم، وأثناء تنظيف أرضية الخزان، تم تسجيل بعض الطرق الفنية مثل المصطبة الصغيرة المائلة عند الأطراف السفلية للجدران من الداخل، كانت تستخدم لسهولة عملية التنظيف، كما أنَّ الطلاء المستعمل الذي كسيت منه الجدران، كان من النوع العازل للترشيح، وكانت سماكة الجدران بشكل عام /50سم/، ومن خلال عملية إزالة الركام الذي كان يملأ أرضية الخزان، تبين أنها رميت ضمنه في الفترة التي لم يعد لسكان المدينة حاجة لها، بعد أنْ استعاضوا عنه بالآبار، وبالأقبية التي كانت توصل إليهم الماء، وقد عثر على بئر بالقرب من صهريج الماء من الجهة الشمالية، كان مملوءاً بالأنقاض وله شكل مخروطي قسمه العلوي بني بألواح من الطابوق المشوي، لقد ضمت الأنقاض المستخرجة منه كسراً فخارية بعضها تعود إلى القرن التاسع الميلادي، وبعضها يعود إلى القرن الثامن الميلادي، مما يتناسب طرداً مع العصر الأموي، وفي الجهة الجنوبية من الموقع وفوق مرتفع يقع بين منخفضين، يتجهان شرق ـ غرب، مع بعض الانحراف الخفيف نحو الشمال، أجرت عالمة الآثار الفرنسية "صوفي بارتييه" سبراً عثرت فيه على بيت من الفترة العباسية، وعلى أرضية إحدى غرف هذا البيت، وجدت مجموعة من اللقى الأثرية، من أهمها خاتم له فص من العقيق، وعليه كتابة عربية غير منقطة، كانت أرضيات الغرف كلها مطلية بمادة الجص العباسي المعروف».
ويذكر أنَّ لهذا الموقع أهمية بالغةً في الطرق القديمة الواصلة والقادمة من وإلى "الرقة"، و"الرها"، و"الجزيرة السورية"، حتى أرمينيا، وأذربيجان، وتكاد تتوسط الطرق بين "الرافقة" و"حرَّان".