«الآثار شواهد ناطقة بلغة صامتة عن الحياة الماضية، وإن كانت تلك الآثار صامته إلا أنه لا وجود لبناء لا يستمد مدلوله من هدف، أو غاية، أو تلبية حاجة، وكما يقول "أبو عثمان الجاحظ": "الأجسام الخرس الصامتة ناطقة من جهة الدلالة، ومعربة من جهة صحة الشهادة، على أن فيها من التدبير والحكمة مخبر لمن استخبره، وناطق لمن استنطقه"».
هذا ما ذكره لموقع eRaqqa الباحث الأستاذ "محمد عبد الحميد الحمد" في معرض حديثه حول دراسة الأثر من حيث دلالته ووظيفته التاريخية.
حاول العالم الأثري الألماني أرنست هرز فيلد" الإجابة على هذا السؤال، عندما عزا هذا الباب إلى "هارون الرشيد"، الذي نقل إدارة حكمه إلى الرقة /180/هـ - /796/م، إلا أن العالم البريطاني "كريزول" نسب هذه البوابة إلى عهد "المنصور" /154/هـ- /772/م بحجة أن البوابة قد بنيت زمن "المنصور"، فما الداعي لإعادة بنائها بعد أربعة وعشرين عاماً؟ ثم قال إن "الطبري" ذكر أن "الرافقة" قد بنيت على نمط "بغداد" من حيث البوابات والفصيل والرحبة والشوارع، وعلى الرغم من ذلك، فالمدينة ليست مستديرة، لأن الجانب الجنوبي مستقيم، وبقية الجدران تشكل نعل الفرس مسقوفة في أعلاها الشمالي. ونحن نقول إن "الرقة" بناها "المنصور" على شاكلة "واسط" العراق، التي بناها "الحجاج بن يوسف الثقفي" /80/هـ - /700/م لتكون قاعدة جند "الشام"، بل إن أبواب "واسط" نقلها "المنصور" إلى "بغداد"، ثم نقل أسلوب بنائها إلى "الرافقة"
وحول علاقة ذلك الأثر المسمى "باب بغداد" بسور "الرافقة"، وما هي حقيقته؟ يقول "الحمد": «حاول العالم الأثري الألماني أرنست هرز فيلد" الإجابة على هذا السؤال، عندما عزا هذا الباب إلى "هارون الرشيد"، الذي نقل إدارة حكمه إلى الرقة /180/هـ - /796/م، إلا أن العالم البريطاني "كريزول" نسب هذه البوابة إلى عهد "المنصور" /154/هـ- /772/م بحجة أن البوابة قد بنيت زمن "المنصور"، فما الداعي لإعادة بنائها بعد أربعة وعشرين عاماً؟ ثم قال إن "الطبري" ذكر أن "الرافقة" قد بنيت على نمط "بغداد" من حيث البوابات والفصيل والرحبة والشوارع، وعلى الرغم من ذلك، فالمدينة ليست مستديرة، لأن الجانب الجنوبي مستقيم، وبقية الجدران تشكل نعل الفرس مسقوفة في أعلاها الشمالي.
ونحن نقول إن "الرقة" بناها "المنصور" على شاكلة "واسط" العراق، التي بناها "الحجاج بن يوسف الثقفي" /80/هـ - /700/م لتكون قاعدة جند "الشام"، بل إن أبواب "واسط" نقلها "المنصور" إلى "بغداد"، ثم نقل أسلوب بنائها إلى "الرافقة"».
ويتابع "الحمد" حديثه حول نفس الموضوع، قائلاً: «درس "كريزول" واجهة "باب بغداد" (البشتاق)، وتصور أنها لا بد أن كانت برجاً مستطيلاً قائم الزاوية /18,07×14,50/م مع مدخل مقنطر بديع وسط الواجهة بارتفاع /3,19/م، أما ارتفاع الواجهة الحالية فهو /11,30/م، وإلى جانب المدخل توجد حنية كبيرة قليلة العمق على شكل حذوة الفرس فيها أربعة صلبان معقوفة ضمن خمسة مربعات، وتشكل أكمل وأنضج أسلوب (الألف جدلة).
وفي أعلى الواجهة توجد ثماني حنيات بديعة التكوين، كل منها مقنطرة ضمن ثلاثة فصوص، قائمة على أعمدة نصف دائرة، ويبدو أنها فقدت ثلاث حنيات في الجانب الشمالي من الواجهة، التي كانت خلفها غرفة مستطيلة عليها قبة معقودة.
قال "كريزول": طلبت من قائد فوج الطيران الفرنسي /39/ فحص الموقع بالتصوير الجوي، فتبين لنا أن الخندق الطويل الملتف حول "الرافقة"، ينقطع عند البرج، "باب بغداد"، مما يجعل هذه المنشأة منفصلة عن مدينة "الرافقة"، وإن أبواب "الرافقة" قد بنيت على السورين الخارجي والداخلي بعد أن يعبر الخندق بقنطرة، والباب ركّب بشكل جانبي موارب ليصعب على العدو اقتحامه».
وحول التحقق من بناء السور وأبعاده، وصلته بـ"باب بغداد"، يتابع "الحمد" حديثه، قائلاً: «في عام /1933/ حقق الطبوغرافي الفرنسي "شلو ميرغر" سماكة السور الداخلي فوجده بعرض /5,85/م، والفصيل بعرض /20,8/م، والسور الخارجي /4,5/م، أما الخندق من الأعلى /15,9/م، ويتناقص تدريجياً إلى أسفل /9,5/م في القاعدة.
وكان "الرشيد" قد حفر خندقاً عميقاً، وأجرى فيه الماء من قناة نهر "النهيا"، قناة "النيل"، التي تستمد مياهها من نهر "الفرات" من مكان قرب "الرقة"، موقع "الخيالة" اليوم، وقد بنى حافتي الخندق بالجص والآجر. وكان "الفصيل" أرض خالية تدور حول "الرافقة" بين السورين الأول والثاني، وأمر "المنصور" ألا يسكن الفصيل وألا يبني أحد منزلاً فيه، وهذا ما سار عليه "الرشيد" أيضاً. عندما جعل على السور بابين هما "باب الرّها" من جهة الشمال، و"باب السّبال" من جهة الشرق في مواجهة "الرقة". وكان هذا الباب مخصصاً لدخول الغرباء كما أفادنا بذلك "محمد بن عمر الواقدي" حين قدومه على "الرشيد"، أما سكان "الرافقة" الخراسانية فمن الجهة الشمالية يدخلون ويخرجون من الصباح حتى المساء».
وعن طبيعة العمارة الفنية للباب، وأقواسه الرائعة، يقول "الحمد": «درس "كريزول" في عام /1933/ الأقواس الرائعة في "باب بغداد"، فوجد أن كل قوس مبني من حلقتين من الآجر المربع سمك كل حلقة آجرتان، مما يجعل عمق جدار البوابة حوالي متراً واحداً. وقال "كريزول" إن هذه الأقواس الأربعة المتحدة المركز ظهرت في سورية قبل إيران، وفي ذلك دحض لمقولة "تالبوت رايس"، التي تشير إلى أن القوس المدببة انتشرت من إيران عبر ما بين النهرين إلى حوض البحر الأبيض المتوسط، وكان ذلك بعد القرن التاسع. ولكن "كريزول" رغم ذلك ظل مندهشاً ومستغرباً تطور هذه البوابة، "باب بغداد" في زمانها ومكانها عن مثيلاتها في بلاد "فارس"، خصوصاً الأثر المعروف بطريق "خانة" في "الدامغان".
إن استغراب "كريزول" له مبرره من الناحية التاريخية، لأن القوس المدببة الذي هو نصّف بعضه، هو ابتكار فارسي محض، وإن الأقواس السورية مبينة على أساس نصف الدائرة يتعارض والقوس البيضوي، الذي تم ابتكاره من قبل أهل "فارس"، وهم قوم ذوي ثقافة عملية لم يحسب أي عالم رياضي لهم القوى التي تفعل في ذلك القوس، كما هو الحال في القوس نصف الدائري، الذي انتقل إلى سورية من بلاد اليونان، والذي قيل فيه أن العالم الرياضي "ديمقريطس"، القرن الخامس قبل الميلاد، هو مبتكره. كما لاحظ "هيغل" /1770-1831/ أن العلماء يتخبطون في تاريخ العمارة الشرقية، لأنها لا تقدم لنا بمضمونها، ولا بشكلها أي مبدأ يتيح لنا تتبع تطورها، واستشفاف الرابطة التي تربط هذه العمارة بعضها ببعض».
ويتابع "الحمد" حديثه حول تحديد زمن بناء الباب، قائلاً: «الباحث الإنكليزي "جون وارن" تقدم في سنة /1978/ بمحاولة لتحديد تاريخ بناء "باب بغداد" معتمداً على تطور الأقواس الرباعية المتحدة المركز، ومما قاله: إن "كريزول" استدل على أسلوب بناء هذه الأقواس من تاريخ البناء الذي قد تم زمن "المنصور"، ثم قارن بناء البوابة بقصر "العاشق" في "سامراء" /865/م، وبناء حصن "الأخيضر"، الذي تبدو أقواسه خرقاء وفجة بالنسبة لما هو في "باب بغداد". وكان "كريزول" قد قارن بين مدخل القبة في حصن "الأخيضر"، ومدخل "باب بغداد" في "الرقة"، وكانت أقواس "الأخيضر" هي إرهاصات لأقواس "باب بغداد".
تساءل "جون وارن" كيف نضجت أشكال الأقواس في "باب بغداد" في زمن متقدم؟. إنها مشكلة صعبة، لأن للعلم صفة تراكم الخبرة، فلا يجوز أن نبدأ بالأكمل، ثم نتدرج نحو الأسلوب الأقل اكتمالاً، وإن جواب تلك المسألة السابقة التي يعوزها الدليل المقنع والتعليل المنطقي، ومنه لا يمكن قبول الفرض القائل إن هذا الباب يعود إلى زمن "المنصور" و"هارون الرشيد"، والرأي الأنسب القول إن هذا الأثر قد بني إلى جانب الأسوار في زمن لاحق عندما دعت الضرورة إليه بعد القرن العاشر أو حتى القرن الحادي عشر.
كان "جون وارن" هو الباحث الذي اقترب من التاريخ الحقيقي لبناء "باب بغداد"، عندما قال إن بناءه كان بعد القرن الحادي عشر الميلادي، وأن الضرورة اقتضت إضافته إلى أسوار المدينة. أما المؤرخ الألماني النابه الذكر "آرنست هرزفيلد" فإنه أشار إلى التشابه الواضح بين "البيمارستان النوري"، "قصر البنات"، والزخارف الموجودة في الحنايا العلوية من "باب بغداد"، وكان المؤرخ الإنكليزي "كريزول" قد أشار إلى تطور الأقواس الرباعية المتحدة المركز في الأوابد المعمارية المشابهة لأقواس "باب بغداد"».
ويختتم الباحث "الحمد" حديثه بتساؤل: لِمَ لم يتوصل هؤلاء الباحثون إلى تحديد هوية "باب بغداد"؟ ويقول: «يخيّل إلي أن الذي غرر بهم هو التسمية الخاطئة "باب بغداد"، التي جلبها أوائل سكان "الرقة" الجدد، "القول"، الذين تجمعوا حول أول مخفر بني في مدينة "الرقة" في العهد العثماني عام /1865/، لأن الرحالة الألماني "ادوارد شاو"، عندما زار "الرقة" في عام /1873/ لم يجد داخل الأسوار القديمة سوى بعض بيوت الشعر السود، وعندما زارت الرحالة الإنكليزية "الليدي آن بلنت"، "الرقة" عام /1878/ لاحظت بعض التجار الحلبيين يقيمون حول المخفر، ومعهم حوالي سبعة عشر بيتاً أو داراً مبنية من اللبن.
أما الحارة الغربية، حي "الشراكسة"، فقال "أرنست هرز فيلد" إنه قد تم بناؤها عام /1907/ بنتها الدولة العثمانية للمهاجرين القادمين من "القوقاز" حديثاً ورسم مخططاً لأسوار "الرافقة".
أطلق السكان الجدد، "القول" اسم "باب بغداد" على مشهد الإمام "علي" (ع)، لأنه شبيه بالباب الموجود في الزاوية الجنوبية الشرقية من سور "حران"، والذي يدعى "باب بغداد"».