ذكر الأستاذ الدكتور "غسان غنيم" (بتاريخ 12/7/2008) أن الحوارالشعري هو نوع من التبادل الفكري الذي يعطي أبعاداً ثقافيةً للمشهد الثقافي العربي، وهذا ما قرأته عن حالة أدبية شعرية رفيعة ضمت رأيين مطروحين للمناقشة، للشاعر الكبير "نزار قباني" والشاعر "فرحان الخطيب"، بحوارية جميلة كان سببها سؤال وجهته فتاة شاعرية اسمها "ليلى" إلى "الخطيب" حول ما قاله "القباني"، فأجابها بأبيات.
مما لاشك فيه أن الشاعر الكبير "نزار قباني" يعد واحداً من الشعراء الذين أدخلوا الرمزية في الشعر العربي المعاصر، إذ استطاع أن يجعل غزله قضية ومثاراً للجدل الميتافيزيقي في عالم الكلمة ونغمتها بالمعنى المجرد، حاول أن يجد نوراً يستدل به إلى طريق الجمال مجسداً جمال أهزوجة شعرية يتغنى بها هو وأمثاله من الشعراء، لذا جعل شعره الغزلي أمثولة لقضية "المرأة" وتكنى باسمها أي أصبح شاعرها بلا منازع وأظهر مكنونات ذاته وأحاسيسه الثقافية والاجتماعية والسياسية في الجرم الصغير الذي انطوى فيه العالم الأكبر من خلال "المرأة"، وكذلك في القضية الوطنية فإنه يتحدث من خلال المرأة عينها، وفي لحظات الحنين والانتماء لرائحة الأرض يرتقي بشعره إلى مصاف العاشق لعبق تراب الأرض والأرض هي امرأة، من هنا أرى ياسمين وزيتون ونخيل نزار قباني بتمره الجميل وطعمه الرائع وألمه الواقعي.
فإني بلا شك أقف متحيزاً مع "نزار قباني" في موقفه بإعطاء المرأة حق حرية الوجود والتعبير عنه وتكوين بنية شخصيتها الإنسانية الثقافية والاجتماعية بعيدة عن الأدلجة، وأحقية شروع المقاومة لها للدفاع عن ذاتها أمام إغراءات ذاتها وذلك حين يقول:
ضعي أظافرك الحمراء في عنقي/ ولا تكوني معي شاة... ولا حملا
وقاوميني بمـا أوتيت مـن حيل/ إذا أتيتـك كالبـركان مشتعـلا.
وهو يعطي الحرية المطلقة في معنى الحب التجريدي بمعناه الواقعي ويستشرف الإبداع من خلاله بلحظة الاندماج الروحي والالتقاء السامي في عالم المطلق الذي يحمل بين دفتيه وجدانية وإنسانية وحقوق التصافي بالأرواح باللقاء والمحبة والشعور بالحب الكلي بكبرياء المخلوق الرائع الذي هو أساس وسيط الإبداع الوجودي "المرأة" ويتجسد ذلك في بيته الأخير:
أحلى الشفاه التي تعصى وأسوؤها/ تلك الشفاه التي دوماً تقول بلى.
الشاعرة والقاصة "سناء الصباغ" بيّنت أن الشاعر "فرحان الخطيب" أخذ بنا إلى الواقعية بالشعر والتقاء المحبة بعد أن تأمل بنظرته التمامية لعلته السامية بذاته وعنصريته الرجولية ليفعل ما يشاء في أروقة الحدائق والأشجار ويستلهم مقاماته مع تغريدة البلابل وعطر الأريج الآدمي على بساط سندسي في خلود العتق الإنساني وتوافق نبرات صوته الأجش في دنيا الوجود اللامحدود، بوضع الأنامل فوق اليد وليس في العنق ليطغى على ذاته لمسة حنان المرأة وعاطفتها، وجعل صراع البقاء بين الجنسين كالذئب والحمل، وإن كان شاعرنا الكبير جعلهما بنفس الفصيلة بقوله: /ولا تكوني معي شاة... ولا حملا/ فالشاة والحمل واحد، بينما الخطيب وضع صراع البقاء بتبادل الحب.
من هنا أشهر "الخطيب" عنفوانيته الآدمية التي تتملك أفكاره وأحاسيسه في أن يضع أناملها على يده وينير التقاء الساكنين شرارة الحب الكلي ورومانسيته التي تملأ كأس العشق من شراب السائغين بروح الود لتتعانق الروحان دون إرادة التعانق المادي وذلك بقوله:
ضعي أناملك الخضراء فوق يدي/ ليعشب الكف طلاً.. واللمى عسلا
إنا عشيقان... لسنا في منازلـة/ فلا تكوني كذئب.. أو أكن حملا
فنحن إثنان.. في ثغر الهوى قبل/ وأجمل العشق… ألا نمنع القبلا
ومساجلة "الخطيب" بواقعية الحب الرومانسي حين يجعل من الفراشات التي نطيرها وأحلى ما نطير، والتي تبقى على الأزاهير تخجل من تنقلاتها، وبالتالي فهو يعيش انعتاقية الذات الإنسانية بعيداً عن القانون الوضعي الوجودي الذي تفرضه طبيعة الحياة في ترانيم روحه بنغمات الطفولة البريئة واشعة الشمس اللطيفة والنسائم الهوائية الرطبة العليلة بين الجبال والوديان لتعبّر عن أنها موجودة في هذا العالم بعد أن تخضع إلى أزلية الوجود وآدمية الروح الخالدة في سنديانة الخلود معبراً عن ذلك بأبياته القائلة:
تلك الفراشات أحلاها نطيّرها/ وإن أسوأها من يدعـي الخجلا
فالحب سيدتي... قمح... وقبرة/ أو كمشة الشمس لما ترشق الجبلا
والحب سيدتي طفل ومدرسة/ لا يبدأ الدرس من لا يفقه الغزلا
فسالميني وذوقي شهد مملكتي/ إذا أتيتك... قولي مرحباً وهلا
وهو يشعر بأن الحب هو عتق وجودي كلما تعتق وتعمق به المرء ازداد مرحلة في إرادة ملؤها الاحترام لمعنى الحب العاطفي ولمملكته العاطفية بعد أن يتوج ملكها بالسلام والترحاب لمن يحب بحركةٍ إيقاعية تجعل من الحركة الودية العاطفية لحظات عشق وجمال يفقد المرء فيها توازن الجسد وينعتق بعالم اللامحدود إلى العشوائية اللاقانونية بتعانق الحبيبين في شهد مملكة الحب بتبادل الحياة للحياة دون الشعور بحرارة الوجد ولكن يتمتعان بسعادة نغمة الروح.
من هنا يصعب القول: من من الشاعرين "نزار قباني" أو "فرحان الخطيب" أجاد أكثر في رأيه، بل أجزم بأنها حوارية ومحطة لتبادل المشاعر والأحاسيس، كل في سجاياه وخواطره الشاعرية ومنبره الخاص به عبر قلمه وفردوسه المفقود في عالم الحب.