«يحمل الموروث الشعبي تاريخاً وأصالةً وحنيناً حينما يكتب في صفحات الثرة بقصائد شعبية تفوح بعبق الوطن وجمال صوره وشاعرية ليصبح ذاك الموروث صلة الوصل بين الماضي والحاضر، كما وثق ذلك شعراؤنا الشعبيون الذين كانوا أميين في القراءة والكتابة وأساتذة في توثيق الوقائع قولاً وفعلاً، ومنهم الشاعر الشعبي "نجم العباس أبو إسماعيل" أمي الكتابة، شيخ المعرفة الفطرية، عالم في القيم والفكر الاجتماعي، جمع ديوانه الأول وسماه "البيان" عام 1955، وبعد وفاته جمعت أشعاره بكتاب عنوانه "قصائد.. للوطن والحياة" بعد أن حقق نصوصه وجمع قصائده ونسقه الأستاذ "نصر أبو إسماعيل"».
هذا ما تحدث به مقدم الديوان الأستاذ "فوزات رزق" بتاريخ 4/9/2008 لموقع eSuweda قائلاً: «في صفحاته التي تزيد على 250 صفحة من قطع الوسط، حمل أبواباً منها: "مع قصائد الثورة، مع الأصدقاء، وجدانيات، قصائد الشباب، زهديات ومدائح دينية"، و"نجم العباس" شاعر شعبي معاصر لأحداث الثورة السورية الكبرى وحمل تاريخ الماضي ومعاناته».
في صفحاته التي تزيد على 250 صفحة من قطع الوسط، حمل أبواباً منها: "مع قصائد الثورة، مع الأصدقاء، وجدانيات، قصائد الشباب، زهديات ومدائح دينية"، و"نجم العباس" شاعر شعبي معاصر لأحداث الثورة السورية الكبرى وحمل تاريخ الماضي ومعاناته
وبيّن محقق الكتاب الأستاذ "نصر أبو اسماعيل" قائلاً: «الشاعر "نجم العباس أبو اسماعيل" من مواليد قرية "ملح" عام 1888، أخذ مبادئ القراءة والكتابة عن شيخ القرية، لكن مدرسته الحقيقية كانت الحياة، أصغى إلى أصواتها المتنوعة، وتفاعل معها بشكلٍ إيجابي، فلقنته دروساً وأكسبته خبرة عالية، سخي القريحة، يملأ نوادي قومه حبورا، وهو واحد من الفلاحين المنخرطين في صفوف الثورة الوطنية، وقرب مطاحن "عرى" (قرية تبعد عن السويداء 11 كم الى الجنوب الغربي) نزف على يديه أخوه محمد، وقد أصيب برصاصة حفرت مجرى لها من الصدر إلى الظهر، كما استقبل على أرض قرية "رساس" (قرية تبعد 4 كم جنوب السويداء) ابن عمه "أجود" وقد تخضب بدمه، وهو يخترق مع رفاقه سحابة من رصاص العدو، وأثناء اقتحام خنادق المسيفرة كان دور أخيه حمود، فقد حفرت شظيّة في جبهته وساماً رافقه طوال حياته، وقد مضى "الشاعر نجم العباس" إلى جوار ربه عام 1976 بعد أن ترك إرثاً ذا قيمة فكرية وفنية تتناقله الأجيال».
وتابع بالقول: «والشاعر ذو حضور اجتماعي كبير وكثيراً ما أفلح باعتباره قاضياً عشائرياً، في فض نزاعات محلية شائكة، أما النزاعات الوطنية فقد كان دوره كبيراً في تقريب وجهات نظر الأطراف المختلفة، وقد وثّق هذا الشاعر في شعره أحداث المنطقة وصراعاتها المحلية والوطنية والقومية في زمنه، وكان لأركان الثورة السورية الكبرى نصيب أوفر منه، وقد بث أفكاره القومية والوطنية والسياسية العفوية في ثنايا إخوانياته، وقصائده الاجتماعية.
ومن ناحية بناء القصيدة فقد نظم الهجيني والشروقي والمعنّى والقرادي والعتابا، واستحدث المسدّس، ويذكر ذلك الشاعر صالح عمار قائلاً: "رب المسدّس نجم ما مثله حدا/ كل من نطق بالقاف خلّي عاحدة"، كما نظم المرسل لكنه أكثر من المقيد بالجناس، ومن الطبيعي أن تجد التجنيس في العتابا والمثنى والمخمس والمسدّس لأن مطيتها الصنعة، لكن الأمر يختلف حين يتعلق بالشعر الخليلي المبني على روي واحد موحد، فقد قسم أبيات كل من ألفيته "نظرات، صوفية، والسر مثل العرض" إلى ثنائيات تبدأ كل واحدة بحرف مجانساً بين الكلمة الأخيرة في البيت الأول ونظيرتها في البيت الثاني في كل ثنائية فمن نظراته الصوفية يقول:
والسين سرّك لا تبيحو لصاحبك/ لو جاب لك كل المنى وسـرورها
ما عمر قالوا صاحب لصـاحبو/ حدّو عساعة غيظ يفشي سرورها
والشين شيّل من قرب حي خاين/ فودك بقربو شبـه زارع عبورها
مقلق مداجي كـود تلقى برفقتـو/ صحبة أبو سـرحانها لعبـورها
وقلما التزم شاعر بهذا التجنيس قبله، فقد تركوه للفنون الشعرية المستحدثة الأخرى».
ويوضح "ابو اسماعيل": «لغة الشاعر كانت مأنوسة وابنة بيئتها، لم تجنح إلى البدوية إلا لماماً، وحين تضغط طبيعة الموضوع بشدة، كما في شد المطايا، أما تكلف الفصحى فنادراً ما كان، فهو حين ينتبه إلى أنه ينشد باسم أطفال متعلمين، يميل نحو سهولة الألفاظ وإعرابها، وحين ينتبه إلى ضرورة إبراز مخزونه اللغوي يلتفت إلى البدوية والجزالة».
الأستاذ "فوزات رزق" تابع في القول: «إن الأدب الشعبي كان مواكباً للمسيرة الوطنية، ورصد نضال حركات التحرر التي نهضت في الجبل، منذ العهد العثماني وحتى العصر الحديث، مفاخراً بالمآثر البطولية التي وقفها رجال الجبل ونساؤهم في وجه الطغاة، فقد قال شاعرهم مخاطباً "سعدى ملاعب" أحد أهم رموز معركة "خراب عرمان" (آثار خربة قرب بلدة عرمان الواقعة إلى الشرق من "صلخد" على بعد 7كم):
"كرمى لك سعدى ملاعب/ لَفْني كـل الكتـايب
ما بيرجع لقرابو السيف/ حتى نسوي العجايب"
وإذا كان الشعر الشعبي قد شهد شيئاً من التقوقع والتمركز حول الذات، فإنه خرج من هذه الدائرة إلى أرحب منها وهي دائرة العروبة حيث رسم خريطة الوطن العربي في حداءٍ جميل، حين استقبل الشاعر "معذى المغوش" الأمير "فيصل" في العقبة مع كوكبة من فرسان الجبل بقوله:
"يا مير ما ودها سـكوت/ لازم تزور بـلادنـا
لا بـد عا جلـق تفوت/ وتشوف عجّ طرادنا
من نجد لساحل بيروت/ لـمصر لـبغدادنـا
حنا العرب أهل البخوت/ بالسيف نحمي نجادنا"
ومن الطبيعي للشعر الشعبي أن يخضع إلى أوزان مثل الفصيح، والدارس يمكن أن يميز بوضوح البحور التي يقع على الشعر الشعبي كالبحر السريع "مستفعلن مستفعلن فاعلن" إذ تأتي على هذا البحر أغلبية القصائد الشروقي والمخمسات والمثال صاحب الديوان الشاعر "نجم العباس" بقصيدته المرسلة إلى المجاهد "زيد الأطرش":
"البارحـة مـا كنّ وني بنوبها/ كني شطني صل صـلدة بنوبهـا
لو دقت طبول الوزارة بنوبها/ ما يفرج العطشان رزمات الرعود/
ولا نظفوا قلب الملوع من الغل"
إن للشعر الشعبي المحدث مشاكل تعترض طريقه وما لم يتجاوزها فإن أزمته ستتفاقم ومن تلك المشاكل، عدم مراعاته للإيقاع والمد الصوتي، والحشو في الأبيات، والالتجاء للقافية للوي عنق المفردة، واستخدام النثر لعدم القدرة على إبداع صورة جديدة.
والشاعر "نجم العباس" هو واحد من شعراء الربع الثاني، وأنا أعتقد أنه من الربع الأول وليس الثاني/ من القرن الماضي الذي عاش أحداث الثورة السورية الكبرى وما تلاها من نزوح الثوار إلى وادي السرحان، فقد كان ابن بيئته إنساناً وشاعراً، فمن ناحية مثّل البيئة والمجتمع الذي عاش فيه خير تمثيل، تمثل قيمه ومبادئه، مثلما عاداته وتقاليده، وإذا كان للشاعر "نجم العباس" من ميزة بين شعراء عصره فإنه قد التزم محكيّة الجبل في القالب الأعم، وقلما مال إلى اللهجة البدوية التي كلف بها الشعراء الشعبيون، وخاصة في الشروقي، ومازالوا حتى اليوم يعتمدونها في أشعارهم».