كما هي قصيدته.. هكذا هو، غموضه في وضوحه وصعوبته في بساطته، يفتح أسئلة الشعر، ويتركها دون جواب، بل إنه يتعمد أن يترك الباب موارباً.. ربما هو سر الصنعة، كما يقال، كثيرون اعترفوا أن لقصيدة "صقر عليشي" خصوصيتها، فهل هذه فضيلة، في زمن تكاد فيه الأصوات الشعرية تضيع في زحمة الاستقطابات الكبرى؟، فلا مدارات "درويش" و"أدونيس" أو سواهما تغري الشاعر، بل نراه يحلّق بعيداً في مدار قصيدته، التي قيل فيها: إنها قصيدة "الومضة" كما في قصيدة "سيران"
«خذ المفتاح/ وادخل في الضباب
أنا لغز غامض/ ليس له حل/ إذا في كومة القش دخلت وأنا الواضح/ لا يخفى وضوحي لو وخزت!
وغل لكي تغل/ وليس إلا
وغب من الغموض/ على حسابي
وحتى لو عثرت على جواب/ فلا تأبه
وعفه هناك وارجع/ خفيفاً/ ليس عندك من جواب»
ولكن لماذا لا تكون قصيدة الرؤية، ولماذا لا تكون قصيدة الغرابة، سواء من حيث موضوعاتها، أو سخريتها، أو حتى القصيدة الباذخة، لا يأبه "عليشي" بموضوع قصيدته، سواء تحدثت عما تقوله البصلة، أو ما تقوله الإبرة أو الدائرة، فهو يفلسف القصيدة تارة، تارة تشي بخصوصية صوفية، إنه شاعر يقتنص الحياة، في لحظة قد لا تتكرر، يطارد غزال المعاني، فتنقاد إليه سادرة وهو لا يفتأ يدافع عن قصيدته، إنها غزال ناعم ولكن بقرنين من مرمر حادين كالنصال، وخلفها تاريخ الجمال برمته.. فمن يجرؤ على منازلة القصيدة؟!
سألته:
*متى تكتب؟!
** «كنا ننتظر القصيدة بشيء من الإيمان، ولكن بعد التجربة، علينا ألا ننتظر القصيدة، فالشاعر يمكن أن يكتب بنوع من الإرادة عن فكرة تشغله، قد تولد بدقائق، وقد تستغرق زمناً طويلاً.. بالنسبة لي أكثر قصائدي كتبت بفترات متباعدة.. لقد بقيت قرابة 10 سنوات لم أكتب قصيدة واحدة فقد شعرت بالأسى والإحباط وبفقدان اللياقة.. وكانت العودة إلى الكتابة نوعاً من إعادة التوازن!!»
* هل حقاً ثمة أزمة شعر؟!
** «لا أعتقد ففي كل العصور كان هناك كم هائل من الشعر ولكن الشعراء كانوا قلة.. على الشاعر أن يستمر ويتابع الكتابة، وأن يقرأ كل شيء القديم والجديد وأن يضع نفسه في تيار الحياة».
** «من تجربته الحياتية من بيئته الأولى، الطفولة، وهي تشكل إحدى الركائز الروحية، ولكنها لا تكفي، يبقى التأثير، البصمة، الخصوصية!!»
* لمن تدين من الشعراء؟!
** «لم أترك تجربة إلا وقرأتها، وتعرفت على أسرارها، القدماء والجدد أعطوني، وإطلاعي على الشعر العالمي، والتراث بشكل خاص، الذي كوّن نسبة 95% من ثقافتي».
** «لا أدعي لقصيدتي حضوراً على قصائد الآخرين، ولكني كتبت قصيدة، مختلفة النكهة.. قدمت تجربة تمتلك شكلاً ولوناً مغايراً وطبيعياً، إنني لست راضياً عن كل ما كتبت فليس كل ما يكتبه الشاعر بمستوى واحد.. أحاول دائماً أن لا أكرر نفسي.. أعود إلى القصيدة فأحذف الكثير!!»
** «أرى نفسي في كل تجربتي.. فأنا لا أبحث عن قصيدة إلا إذا كانت بمفهوم التجربة.. أرى نفسي في قصيدتي التي تتلون وتتغير باستمرار».
* وقصيدة النثر؟!
** «ليست شعراً!».
كي تلج عوالم الشاعر "عليشي" لا بد لك أن تلم بأبعاد تجربته المترامية وبمصادرها المتنوعة ثقافياً وفنياً، ولنترك إذاً شعره يتحدث عنه، فمَنْ أجدر من شعر الشاعر بالتحدث عن نفسه؟!
يقول في (قالت الإبرة):
«أنا لغز غامض/ ليس له حل/ إذا في كومة القش دخلت
وأنا الواضح/ لا يخفى وضوحي لو وخزت!».